in Arabic مناجاة الرب بتصريح وختم الدولة

مناجاة الرب بتصريح وختم الدولة

-

د. أحمد الخميسي ـ الدستور ـ

هل تحتاج مناجاة الرب إلى ختم الدولة؟، وهل تحتاج ملاقاة الرب فى الرحلة الأخيرة إلى ختم الدولة؟، نعم يحدث هذا فى مصر، حينما يحتاج أقباطها إلى الشوارع لإقامة الصلاة وإلى الشوارع لتوديع موتاهم، لأنه ليس لهم كنيسة بترخيص رسمى فى قرية «دمشاو هاشم» بالمنيا وفى غيرها.

هكذا يختلس الأقباط للموتى لحظة الرحيل إلى الرب، ويختلسون لحظة مناجاة الرب بلا كنيسة، ومن دون سقف. فى يوم الخميس الماضى ٦ سبتمبر أقام القس أنطون الصلاة على جثمان وديع حبيب فى «دمشاو» فى زقاق جانبى ضيق بعد العدوان الهمجى الذى تم على الأقباط قبل ذلك بأسبوع فى ٣١ أغسطس حين خرج عليهم ألف شخص يهتفون ويعتدون ويصيبون اثنين بجراح ويقتحمون المنازل، ويسلبون محتوياتها ويضرمون النار فى واحد منها. سبق تلك الغزوة حدث مماثل فى قرية «عزبة سلطان» المجاورة، وقبلها تعرضت دمشاو نفسها للعنف الطائفى عام ٢٠٠٥، وفى كل تلك المرات لم يعاقب أحد، مما شجع على تجدد الهمجية بهدف منع بناء كنيسة حيثما أمكن. وتبقى جمرة الطائفية تخبو وتتوهج وتندلع النار منها فجأة لتلتهم كل شىء.

وهى جمرة تتغذى فى وجودها على عوامل قانونية، وتعليمية، وإعلامية، وثقافية. ولا يمكن هنا إنكار أثر هيمنة ثقافة العصور الوسطى المتجسدة فى كتب ابن تيمية، والشيخ أحمد الدمنهورى صاحب كتاب «إقامة الحجة الباهرة على هدم كنائس مصر والقاهرة»، الذى يدعو فيه إلى هدم الكنائس ويقول فيه بوضوح قاطع: «إن من أفتى بخلاف هذا القول فهو مختل الدين.. ويجب بإجماع المذاهب الأربعة على قاضى المسلمين، أن يحجر على ذلك المفتى لجهله أو خيانته»، ومع أن الدمنهورى قد توفى منذ أكثر من مائتى سنة، فإن كتابه يثب إلى شوارع مصر مجددًا عام ٢٠١٣ من مكتبات المنصورة، وجاءت إعادة طباعته عقب هدم كنيسة أطفيح، كأنما ظهر فى هذا التوقيت ليضع الأساس النظرى لهدم الكنائس وبث السموم فى الوعى العام.

وقضية هيمنة ثقافة العصور الوسطى موضوع يمس مباشرة جهات مثل اتحاد الكُتّاب، ووزارة الثقافة، والجهات التعليمية، والأزهر الشريف. فقد مرت أحداث «قرية دمشاو» مرور الكرام على كل تلك الجهات من دون أن ينبس أحد بحرف أو يحرك أحد ساكنًا. لماذا لا تشغل وزارة الثقافة واتحاد الكُتّاب أوقات موظفيها بالتفكير فى تشكيل لجان ثقافية شعبية لمقاومة الطائفية، لجان أشبه بكتائب ثقافية خفيفة متحركة تسعى بعروض تشمل الشعر والمسرح ومشاهد سينمائية، وأغنيات عن التسامح والوحدة الوطنية ترسخ التسامح والمواطنة وقبول الاختلاف العقائدى. وأتساءل بالمرة أين موقف المجلس القومى لحقوق الإنسان مما جرى؟، ألا يعتبر أن نهب بيوت الآخرين وإضرام النار فيها عدوان على حقوق الإنسان؟، أليست حرية العقيدة من حقوق الإنسان؟.

جزء من جمرة الطائفية التى تتوهج وتخبو قضية التشريعات والقوانين، ومنها قانون تنظيم بناء الكنائس الذى ما زال حزب النور يرفضه جملة وتفصيلًا، ولا تفعّل بنوده فى أغلب الأحوال، حتى إن هناك طلبات تقنين وضع بعض الكنائس لم يبت فيها منذ عام ١٩٧٦ إلى الآن. أما المذهل فهو موقف البرلمان مما جرى، فقد انتفض البرلمان فى الأول من سبتمبر الحالى ضد مسابقة ينظمها نائب بالبرلمان الهولندى لإعداد رسوم مسيئة للإسلام، وشن أعضاء البرلمان هجومًا عنيفًا على الهولندى، وأكدوا أن هذه المسابقة تأتى فى سياق التعصب، مؤكدين على سماحة الدين الإسلامى.

إذن هاج البرلمان وثار بسبب رسوم هولندية متعصبة، أما التعصب الذى يجبر الناس على الصلاة وعلى توديع موتاهم فى الشوارع، فلا يستحق لا ثورة ولا كلمة ولا بيانًا رسميًا ولا إرسال وفد برلمانى ليتقصى ما جرى فى دمشاو. ولم تنطق وزارة الثقافة بحرف، ولا اتحاد الكُتّاب، ولا أحد كأن القضية قضية اكتشاف طبى فى النرويج. وليست دمشاو أول المشاهد المحزنة، ولا حتى أشدها قسوة على الضمير، ففى ٢٠ مايو عام ٢٠١٦ قام نحو ثلاثمائة شخص فى الصعيد بتعرية عجوز مسيحية فى السبعين من عمرها، وطافوا بها قرية «الكرم» وهم مسلحون، وقالت العجوز «سعاد ثابت» فى محضر الشرطة باكية: «بهدلونى، يا بيه. حرقوا البيت ودخلوا جابونى من جوه. رمونى قدام البيت وخلَّعونى هدومى يا بيه، زى ما ولدتنى أمى، مخلوش حاجة حتى ملابسى الداخلية وأنا بصرخ وأبكى». ولم تحسب وزارة الثقافة أو اتحاد الكُتّاب أو وزارة التعليم أو الأزهر الشريف أن عليها منفردة أو مجتمعة أن تتحرك لتغيير الوعى العام. ما زالت دموع الأم العجوز تجرى فى ضميرى تنادى: يا ولدى، آن الأوان للكف عن الظلم، يا ولدى.

https://www.dostor.org/2315840

?s=96&d=mm&r=g مناجاة الرب بتصريح وختم الدولة

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

You might also likeRELATED
Recommended to you

د. أحمد الخميسي ـ الدستور ـ

هل تحتاج مناجاة الرب إلى ختم الدولة؟، وهل تحتاج ملاقاة الرب فى الرحلة الأخيرة إلى ختم الدولة؟، نعم يحدث هذا فى مصر، حينما يحتاج أقباطها إلى الشوارع لإقامة الصلاة وإلى الشوارع لتوديع موتاهم، لأنه ليس لهم كنيسة بترخيص رسمى فى قرية «دمشاو هاشم» بالمنيا وفى غيرها.

هكذا يختلس الأقباط للموتى لحظة الرحيل إلى الرب، ويختلسون لحظة مناجاة الرب بلا كنيسة، ومن دون سقف. فى يوم الخميس الماضى ٦ سبتمبر أقام القس أنطون الصلاة على جثمان وديع حبيب فى «دمشاو» فى زقاق جانبى ضيق بعد العدوان الهمجى الذى تم على الأقباط قبل ذلك بأسبوع فى ٣١ أغسطس حين خرج عليهم ألف شخص يهتفون ويعتدون ويصيبون اثنين بجراح ويقتحمون المنازل، ويسلبون محتوياتها ويضرمون النار فى واحد منها. سبق تلك الغزوة حدث مماثل فى قرية «عزبة سلطان» المجاورة، وقبلها تعرضت دمشاو نفسها للعنف الطائفى عام ٢٠٠٥، وفى كل تلك المرات لم يعاقب أحد، مما شجع على تجدد الهمجية بهدف منع بناء كنيسة حيثما أمكن. وتبقى جمرة الطائفية تخبو وتتوهج وتندلع النار منها فجأة لتلتهم كل شىء.

وهى جمرة تتغذى فى وجودها على عوامل قانونية، وتعليمية، وإعلامية، وثقافية. ولا يمكن هنا إنكار أثر هيمنة ثقافة العصور الوسطى المتجسدة فى كتب ابن تيمية، والشيخ أحمد الدمنهورى صاحب كتاب «إقامة الحجة الباهرة على هدم كنائس مصر والقاهرة»، الذى يدعو فيه إلى هدم الكنائس ويقول فيه بوضوح قاطع: «إن من أفتى بخلاف هذا القول فهو مختل الدين.. ويجب بإجماع المذاهب الأربعة على قاضى المسلمين، أن يحجر على ذلك المفتى لجهله أو خيانته»، ومع أن الدمنهورى قد توفى منذ أكثر من مائتى سنة، فإن كتابه يثب إلى شوارع مصر مجددًا عام ٢٠١٣ من مكتبات المنصورة، وجاءت إعادة طباعته عقب هدم كنيسة أطفيح، كأنما ظهر فى هذا التوقيت ليضع الأساس النظرى لهدم الكنائس وبث السموم فى الوعى العام.

وقضية هيمنة ثقافة العصور الوسطى موضوع يمس مباشرة جهات مثل اتحاد الكُتّاب، ووزارة الثقافة، والجهات التعليمية، والأزهر الشريف. فقد مرت أحداث «قرية دمشاو» مرور الكرام على كل تلك الجهات من دون أن ينبس أحد بحرف أو يحرك أحد ساكنًا. لماذا لا تشغل وزارة الثقافة واتحاد الكُتّاب أوقات موظفيها بالتفكير فى تشكيل لجان ثقافية شعبية لمقاومة الطائفية، لجان أشبه بكتائب ثقافية خفيفة متحركة تسعى بعروض تشمل الشعر والمسرح ومشاهد سينمائية، وأغنيات عن التسامح والوحدة الوطنية ترسخ التسامح والمواطنة وقبول الاختلاف العقائدى. وأتساءل بالمرة أين موقف المجلس القومى لحقوق الإنسان مما جرى؟، ألا يعتبر أن نهب بيوت الآخرين وإضرام النار فيها عدوان على حقوق الإنسان؟، أليست حرية العقيدة من حقوق الإنسان؟.

جزء من جمرة الطائفية التى تتوهج وتخبو قضية التشريعات والقوانين، ومنها قانون تنظيم بناء الكنائس الذى ما زال حزب النور يرفضه جملة وتفصيلًا، ولا تفعّل بنوده فى أغلب الأحوال، حتى إن هناك طلبات تقنين وضع بعض الكنائس لم يبت فيها منذ عام ١٩٧٦ إلى الآن. أما المذهل فهو موقف البرلمان مما جرى، فقد انتفض البرلمان فى الأول من سبتمبر الحالى ضد مسابقة ينظمها نائب بالبرلمان الهولندى لإعداد رسوم مسيئة للإسلام، وشن أعضاء البرلمان هجومًا عنيفًا على الهولندى، وأكدوا أن هذه المسابقة تأتى فى سياق التعصب، مؤكدين على سماحة الدين الإسلامى.

إذن هاج البرلمان وثار بسبب رسوم هولندية متعصبة، أما التعصب الذى يجبر الناس على الصلاة وعلى توديع موتاهم فى الشوارع، فلا يستحق لا ثورة ولا كلمة ولا بيانًا رسميًا ولا إرسال وفد برلمانى ليتقصى ما جرى فى دمشاو. ولم تنطق وزارة الثقافة بحرف، ولا اتحاد الكُتّاب، ولا أحد كأن القضية قضية اكتشاف طبى فى النرويج. وليست دمشاو أول المشاهد المحزنة، ولا حتى أشدها قسوة على الضمير، ففى ٢٠ مايو عام ٢٠١٦ قام نحو ثلاثمائة شخص فى الصعيد بتعرية عجوز مسيحية فى السبعين من عمرها، وطافوا بها قرية «الكرم» وهم مسلحون، وقالت العجوز «سعاد ثابت» فى محضر الشرطة باكية: «بهدلونى، يا بيه. حرقوا البيت ودخلوا جابونى من جوه. رمونى قدام البيت وخلَّعونى هدومى يا بيه، زى ما ولدتنى أمى، مخلوش حاجة حتى ملابسى الداخلية وأنا بصرخ وأبكى». ولم تحسب وزارة الثقافة أو اتحاد الكُتّاب أو وزارة التعليم أو الأزهر الشريف أن عليها منفردة أو مجتمعة أن تتحرك لتغيير الوعى العام. ما زالت دموع الأم العجوز تجرى فى ضميرى تنادى: يا ولدى، آن الأوان للكف عن الظلم، يا ولدى.

https://www.dostor.org/2315840