in Arabic مأساة الطائفية فى مصر.. قراءة فى تقرير الدكتور العطيفى

مأساة الطائفية فى مصر.. قراءة فى تقرير الدكتور العطيفى

-

د. محمد نور فرحات ـ المصري اليوم ـ

لا مجال للخلاف السياسى عندما يتعلق الأمر بوحدة الوطن وتماسكه. الفتنة الطائفية لم تطل بوجهها القبيح على مصر الحديثة إلا منذ نصف قرن مع سياسات السادات الخرقاء عن طريق مزج الدين بالسياسة للنيل من خصومه السياسيين. والغالب أنها سياسات كانت تحظى بمباركة قوى خارجية لا تريد لمصر خيرا.

وسرعان ما استشرت الحرائق فى جسد الوطن. وكان الجهل والتعصب والفقر تربة خصبة. وترك الأمر سداحا مداحا فى الإعلام والمساجد لبث سموم الطائفية باسم الدين. كانت الدولة فى عهد السادات تغض الطرف بل تشجع نمو التيار الدينى، وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه لقوى التخلف تنعق بالطائفية فى سماء مصر.

كانت دولة متواطئة وإعلامها مدمر ومؤسساتها يتصدرها حهلاء يعيثون فى الأرض فسادا. ونكص التعليم عن أداء واجبه فى تحقيق حد أدنى من وحدة عقل الوطن بل انتشرت فى مصر طائفية التعليم.

ليست أحداث قرية دمشاو هاشم بالمنيا التى فجعتنا مؤخرا هى الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة فى دولة لا ترى أجهزتها أهمية لتفعيل مواد الدستور الخاصة بالمواطنة والحريات والمساواة والحق فى التنمية ولا ينشغل نوابها إلا بتعديل مدد الرئاسة وسن قوانين الجباية.

بعد أن تولى الرئيس المؤمن حكم دولة العلم والإيمان بشهور قليلة، اندلعت الفتنة الطائفية بأحداث الخانكة عام ١٩٧٢وتبعتها أحداث الزاوية الحمراء واستمرت الحرائق حتى اليوم.

السيناريو واحد: مجموعة من المسيحيين يتخذون مكانا للصلاة، قد يكون المكان غير مرخص كدار للعبادة أو يجرى الترخيص له. ومن دواعى العجب فى دولة حديثة أن يطلب من المسيحيين ترخيص بإقامة الصلاة فى وقت يستخدم فيه بناء الزوايا والمساجد فى القرى والعشوائيات ذريعة لمخالفة قوانين البناء.

ما إن تبدأ الصلاة ويهمس الأقباط بالتراتيل حتى ينطلق شيوخ السلفية فى مكبراتهم لاستنفار الحمية الدينية للدهماء، ويبدأ مسلسل التدمير والتخريب بل الطرد والتهجير. ويجرى التهجير أحيانا بمباركة رموز الدولة بالمحليات.هذا سلوك همجى لم يحدث فى عصر الرسول الكريم أو خلفائه وإنما أفتى به شيوخ الفتنة فى عصور الانحطاط. ونحن عن شيوع فقه الفتنة صامتون، ولخطابه الهمجى مستمرئون، وعن واجباتنا فى الحفاظ على نسيج الوطن غافلون.

ما حدث فى الخانكة سنة ١٩٧٢ أن قام مجموعة من المسيحيين بالصلاة فى مبنى جمعية الكتاب المقدس. فاستفز ذلك شيوخ السلفية فى دولة يعلن رئيسها أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة. جهرت مكبرات المسجد مطالبة المسلمين بنصرة دينهم. فأحرقوا بيوت ومتاجر وجمعيات الأقباط، سار الأقباط فى موكب ممتد يرتلون، فاستمر الدهماء يخربون.

شكل البرلمان بناء على طلب الرئيس لجنة لتقصى الحقائق برئاسة المرحوم الدكتور جمال العطيفى وعضوية عدد من رجال الدولة والسياسة المسلمين والمسيحيين. التقرير الذى أعدته اللجنة لم يلتفت أحد إلى ما ورد به من توصيف للمشكلة ومن توصيات لحلها.

لن يتسع المجال هنا لعرض التقرير وتقييمه. ولكن نحسب أنه قد آن الأوان لاستخراجه من محفوظات البرلمان ودراسته بجدية.

أهم ما يحسب للتقرير أنه ابتعد عن الرؤية الأمنية المبتسرة التى تفسر الأمور بوجود عناصر مندسة، وتقدم الحلول بالجلسات العرفية. هذه الرؤية العاجزة هى سبب كل مصائبنا.

تقرير لجنة العطيفى سياسى احترافى بامتياز. رصدت اللجنة وقائع الأحداث بدقة وموضوعية. ولكن التقرير فى جانبه التحليلى اكتسب طابعا رسميا محافظا يتجنب توجيه أى نقد لسياسات ومؤسسات الدولة، وهذا أمر مفهوم فى مصر فى تقرير رسمى. ومع ذلك فقد أبرز التقرير أمورا مهمة وحساسة. رصد الدور الذى يقوم به رجال الدين من الجانبين فى إذكاء المشاعر الطائفية. وتوارت فى الوجدان الجمعى فكرة مدنية الدولة. ورصد تضارب أجهزة الدولة فى تحديد عدد المسيحيين وعدد دور العبادة. وزارة الداخلية تتحفظ فى ذكر الأعداد فى حين الإحصاء تتسامح فيها. لا تفسير لذلك إلا أن الفكر السلفى العنصرى ما زال كامنا فى لا وعى بعض الرسميين. بيان الأرقام الحقيقية وإعلانها من مصادر موثوق بها هو الخطوة الأولى نحو المعاملة المنصفة لمسألة إنشاء دور العبادة ومكافحة التمييز.

لاحظت اللجنة أيضاً أنه «بعد أن أصبحت مادة التربية الدينية وفقا للدستور مادة أساسية فى مناهج التعليم العام، فإن المدارس تحولت إلى مؤسسات للدعوة». وثمة مقترح لا نعرف سبب تجاهل الحكومات المتعاقبة له، وهو تدريس منهج دينى موحد للأقباط والمسلمين يركز على القيم الإيجابية المشتركة وعلى النصوص التى تؤكد على التسامح وقبول الآخر.

وانتهت اللجنة إلى مجموعة من التوصيات أهمها فى مجال التعليم: إعادة النظر فى مناهج اللغة العربية والتربية الدينية التى تحض على الطائفية، وتلافى هذا التجاهل الواضح للأديان الأخرى، وفى مجال الإعلام: التناول الموضوعى لجميع القضايا ذات البعد الدينى، خاصة القضايا التى تتعلق بالعقيدة المسيحية والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وتخصيص مساحة على الخريطة الإعلامية للتعريف بالثقافة والتاريخ القبطيين.

وفى مجال بناء دور العبادة أوصت اللجنة بصدور قانون موحد ينظمها بناء على معايير موحدة.

وأذكر أننى كنت عضوا فى لجنة شكلها مجلس الوزراء فى عهد حكومة الدكتور عصام شرف قامت بوضع خطوط عامة لمشروع قانون دور العبادة الموحد يعتمد الحاجة الفعلية لأعداد من السكان فى منطقة ما لإقامة الشعائر. ولكن هذا المشروع تحفظت عليه كل المؤسسات الدينية. وكان من بين أسباب التحفظ مسألة الأديرة وهل تعتبر أماكن عبادة؟، وصعوبة حصر مساجد القرى والعشوائيات. وهذه قضايا عملية يمكن التعامل معها بسهولة. فمن الممكن استثناء الأديرة والمساجد التاريخية من تطبيق القانون. وقد قامت الدولة بعد ذلك بسهولة بحصر المساجد والزوايا فى أنحاء مصر وأخضعتها لإشرافها.

والظن عندى أن مسألة الطائفية بكل جوانبها ومقترحات معالجتها أخطر من أن تترك ليد المؤسسات الدينية أو الأمنية فلكل وجهة هو موليها. وأن النصوص الدستورية المتعلقة بالمساواة والمواطنة ومكافحة التمييز والحق فى التنمية لابد أن تفعل بالتشريعات الجادة. وقد سبق أن كتبت فى موضوع مكافحة التمييز ومحاولات البيروقراطية الالتفاف عليها (المصرى اليوم ديسمبر ٢٠١٥ و١٣ يوليو ٢٠١٨). إننى أدعو بشكل عاجل إلى تشكيل لجنة من ممثلى الأحزاب والجمعيات المدنية والبرلمان والحكومة مهمتها الاستهداء بتقرير لجنة العطيفى ووضع مقترحات محددة وملزمة لتنفيذ ما ورد بها من توصيات. فالطائفية هى الوجه المقابل للإرهاب.

?s=96&d=mm&r=g مأساة الطائفية فى مصر.. قراءة فى تقرير الدكتور العطيفى

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

You might also likeRELATED
Recommended to you

د. محمد نور فرحات ـ المصري اليوم ـ

لا مجال للخلاف السياسى عندما يتعلق الأمر بوحدة الوطن وتماسكه. الفتنة الطائفية لم تطل بوجهها القبيح على مصر الحديثة إلا منذ نصف قرن مع سياسات السادات الخرقاء عن طريق مزج الدين بالسياسة للنيل من خصومه السياسيين. والغالب أنها سياسات كانت تحظى بمباركة قوى خارجية لا تريد لمصر خيرا.

وسرعان ما استشرت الحرائق فى جسد الوطن. وكان الجهل والتعصب والفقر تربة خصبة. وترك الأمر سداحا مداحا فى الإعلام والمساجد لبث سموم الطائفية باسم الدين. كانت الدولة فى عهد السادات تغض الطرف بل تشجع نمو التيار الدينى، وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه لقوى التخلف تنعق بالطائفية فى سماء مصر.

كانت دولة متواطئة وإعلامها مدمر ومؤسساتها يتصدرها حهلاء يعيثون فى الأرض فسادا. ونكص التعليم عن أداء واجبه فى تحقيق حد أدنى من وحدة عقل الوطن بل انتشرت فى مصر طائفية التعليم.

ليست أحداث قرية دمشاو هاشم بالمنيا التى فجعتنا مؤخرا هى الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة فى دولة لا ترى أجهزتها أهمية لتفعيل مواد الدستور الخاصة بالمواطنة والحريات والمساواة والحق فى التنمية ولا ينشغل نوابها إلا بتعديل مدد الرئاسة وسن قوانين الجباية.

بعد أن تولى الرئيس المؤمن حكم دولة العلم والإيمان بشهور قليلة، اندلعت الفتنة الطائفية بأحداث الخانكة عام ١٩٧٢وتبعتها أحداث الزاوية الحمراء واستمرت الحرائق حتى اليوم.

السيناريو واحد: مجموعة من المسيحيين يتخذون مكانا للصلاة، قد يكون المكان غير مرخص كدار للعبادة أو يجرى الترخيص له. ومن دواعى العجب فى دولة حديثة أن يطلب من المسيحيين ترخيص بإقامة الصلاة فى وقت يستخدم فيه بناء الزوايا والمساجد فى القرى والعشوائيات ذريعة لمخالفة قوانين البناء.

ما إن تبدأ الصلاة ويهمس الأقباط بالتراتيل حتى ينطلق شيوخ السلفية فى مكبراتهم لاستنفار الحمية الدينية للدهماء، ويبدأ مسلسل التدمير والتخريب بل الطرد والتهجير. ويجرى التهجير أحيانا بمباركة رموز الدولة بالمحليات.هذا سلوك همجى لم يحدث فى عصر الرسول الكريم أو خلفائه وإنما أفتى به شيوخ الفتنة فى عصور الانحطاط. ونحن عن شيوع فقه الفتنة صامتون، ولخطابه الهمجى مستمرئون، وعن واجباتنا فى الحفاظ على نسيج الوطن غافلون.

ما حدث فى الخانكة سنة ١٩٧٢ أن قام مجموعة من المسيحيين بالصلاة فى مبنى جمعية الكتاب المقدس. فاستفز ذلك شيوخ السلفية فى دولة يعلن رئيسها أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة. جهرت مكبرات المسجد مطالبة المسلمين بنصرة دينهم. فأحرقوا بيوت ومتاجر وجمعيات الأقباط، سار الأقباط فى موكب ممتد يرتلون، فاستمر الدهماء يخربون.

شكل البرلمان بناء على طلب الرئيس لجنة لتقصى الحقائق برئاسة المرحوم الدكتور جمال العطيفى وعضوية عدد من رجال الدولة والسياسة المسلمين والمسيحيين. التقرير الذى أعدته اللجنة لم يلتفت أحد إلى ما ورد به من توصيف للمشكلة ومن توصيات لحلها.

لن يتسع المجال هنا لعرض التقرير وتقييمه. ولكن نحسب أنه قد آن الأوان لاستخراجه من محفوظات البرلمان ودراسته بجدية.

أهم ما يحسب للتقرير أنه ابتعد عن الرؤية الأمنية المبتسرة التى تفسر الأمور بوجود عناصر مندسة، وتقدم الحلول بالجلسات العرفية. هذه الرؤية العاجزة هى سبب كل مصائبنا.

تقرير لجنة العطيفى سياسى احترافى بامتياز. رصدت اللجنة وقائع الأحداث بدقة وموضوعية. ولكن التقرير فى جانبه التحليلى اكتسب طابعا رسميا محافظا يتجنب توجيه أى نقد لسياسات ومؤسسات الدولة، وهذا أمر مفهوم فى مصر فى تقرير رسمى. ومع ذلك فقد أبرز التقرير أمورا مهمة وحساسة. رصد الدور الذى يقوم به رجال الدين من الجانبين فى إذكاء المشاعر الطائفية. وتوارت فى الوجدان الجمعى فكرة مدنية الدولة. ورصد تضارب أجهزة الدولة فى تحديد عدد المسيحيين وعدد دور العبادة. وزارة الداخلية تتحفظ فى ذكر الأعداد فى حين الإحصاء تتسامح فيها. لا تفسير لذلك إلا أن الفكر السلفى العنصرى ما زال كامنا فى لا وعى بعض الرسميين. بيان الأرقام الحقيقية وإعلانها من مصادر موثوق بها هو الخطوة الأولى نحو المعاملة المنصفة لمسألة إنشاء دور العبادة ومكافحة التمييز.

لاحظت اللجنة أيضاً أنه «بعد أن أصبحت مادة التربية الدينية وفقا للدستور مادة أساسية فى مناهج التعليم العام، فإن المدارس تحولت إلى مؤسسات للدعوة». وثمة مقترح لا نعرف سبب تجاهل الحكومات المتعاقبة له، وهو تدريس منهج دينى موحد للأقباط والمسلمين يركز على القيم الإيجابية المشتركة وعلى النصوص التى تؤكد على التسامح وقبول الآخر.

وانتهت اللجنة إلى مجموعة من التوصيات أهمها فى مجال التعليم: إعادة النظر فى مناهج اللغة العربية والتربية الدينية التى تحض على الطائفية، وتلافى هذا التجاهل الواضح للأديان الأخرى، وفى مجال الإعلام: التناول الموضوعى لجميع القضايا ذات البعد الدينى، خاصة القضايا التى تتعلق بالعقيدة المسيحية والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وتخصيص مساحة على الخريطة الإعلامية للتعريف بالثقافة والتاريخ القبطيين.

وفى مجال بناء دور العبادة أوصت اللجنة بصدور قانون موحد ينظمها بناء على معايير موحدة.

وأذكر أننى كنت عضوا فى لجنة شكلها مجلس الوزراء فى عهد حكومة الدكتور عصام شرف قامت بوضع خطوط عامة لمشروع قانون دور العبادة الموحد يعتمد الحاجة الفعلية لأعداد من السكان فى منطقة ما لإقامة الشعائر. ولكن هذا المشروع تحفظت عليه كل المؤسسات الدينية. وكان من بين أسباب التحفظ مسألة الأديرة وهل تعتبر أماكن عبادة؟، وصعوبة حصر مساجد القرى والعشوائيات. وهذه قضايا عملية يمكن التعامل معها بسهولة. فمن الممكن استثناء الأديرة والمساجد التاريخية من تطبيق القانون. وقد قامت الدولة بعد ذلك بسهولة بحصر المساجد والزوايا فى أنحاء مصر وأخضعتها لإشرافها.

والظن عندى أن مسألة الطائفية بكل جوانبها ومقترحات معالجتها أخطر من أن تترك ليد المؤسسات الدينية أو الأمنية فلكل وجهة هو موليها. وأن النصوص الدستورية المتعلقة بالمساواة والمواطنة ومكافحة التمييز والحق فى التنمية لابد أن تفعل بالتشريعات الجادة. وقد سبق أن كتبت فى موضوع مكافحة التمييز ومحاولات البيروقراطية الالتفاف عليها (المصرى اليوم ديسمبر ٢٠١٥ و١٣ يوليو ٢٠١٨). إننى أدعو بشكل عاجل إلى تشكيل لجنة من ممثلى الأحزاب والجمعيات المدنية والبرلمان والحكومة مهمتها الاستهداء بتقرير لجنة العطيفى ووضع مقترحات محددة وملزمة لتنفيذ ما ورد بها من توصيات. فالطائفية هى الوجه المقابل للإرهاب.