عليك أن تتحسس كلماتك في مصر، وتفكر جيدًا في معانيها قبل أن تلفظها أو تكتبها، لأنها قد تأخذك إلى ساحات المحاكم، وربما إلى السجن بعد أن صارت تهمة ” ازدراء الأديان”، سيفاً مسلطاً تجاه الأقليات الدينية، وأصحاب الفكر المختلف عن السائد، بل والمواطنين العاديين، إذا أزعج أي منهم مشاعر من أصبحوا يتحدثون باسم أهل السنة والجماعة. هناك عشرات الضحايا في مصر لهذه التهمة الفضفاضة، بعضهم يقضي عقوبة السجن، والبعض الآخر عُزل من وظيفته، أو خضع لضغط المجتمع، أو لقرار لجان عرفية، فترك مسكنه مرغمًا على نزوح قسري.
صار ” ازدراء الأديان” جريمة، بعد أن قدمت الحكومة مقترحاً للبرلمان في نهاية عام ١٩٨١، عقب عنف طائفي دموي، في حي الزاوية الحمراء في القاهرة، في حزيران/ يونيو ١٩٨١ قُتل فيه عشرات الأقباط. كانت حكومة الرئيس أنور السادات آنذاك تسعى للسيطرة على خطاب إسلامي، أطلقته من عقاله، وفتحت أمامه أبوابًا واسعة قبل سنوات، ولكنه استدار ضدها، بشراسة بل وقتل السادات، الرئيس المؤمن، كما سمى نفسه، بعد ذلك بشهور وسط جنرالاته ووزرائه في عرض عسكري. صار الخطاب الإسلامي في نسخته الجهادية العنيفة، يسوّغ بل ويحرض على الاعتداء على المسيحيين، وكان طموح نظام السادات، أن يُستغل القانون والقضاء ضد المحرضين على الاعتداءات الطائفية.
ولكن، في العقود التالية أصبحت هذه السياسة، التي انتجت المادة ٩٨-فقرة “و” في قانون العقوبات المصري، ذريعة لاستهداف الأقليات الدينية وغيرهم، بتهمة الإساءة للدين الإسلامي، وللذات الإلهية.
تضخم كرة الثلج
وفقا للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهي منظمة حقوقية، تزايدت إجراءات التأديب الإدارية والمحاكمات القضائية بتهمة ازدراء الأديان، عقب ثورة عام ٢٠١١، بدرجةٍ ملفتة. ووثقت المنظمة ٢٨ قضية حتى نهاية ٢٠١٣، نظرتها المحاكم المختلفة (ثلاث قضايا في عام ٢٠١١، و١٢ قضية في ٢٠١٢، و١٣ قضية خلال ٢٠١٣).
ومنذ بداية عام ٢٠١٦، رصدت المبادرة المصرية نحو ٣٠ قضية، وجهت النيابة العامة في جانب كبير منه، اتهاماتٍ لمنتمين للأقليات الدينية، بازدراء الأديان والإساءة للذات الإلهية. ومن بين هذه الحالات التي وقعت خلال العام الحالي، تعرض ثلاثة من أساتذة الجامعة، لجزاء إداري، شمل الإيقاف عن العمل، وخصم جزءٍ كبيرٍ من مرتباتهم ،وحُكم على باحثين اثنين في الشؤون الإسلامية، بالحبس عدة سنوات، بينما نال الباحث أيمن كمال، براءةً من المحكمة، بعد أن قضى قرابة الخمسة أشهر محبوساً على ذمة القضية. ولا يزال عدد من الشيعة والأقباط محبوسين على ذمة تحقيقاتٍ جارية، في قضايا الازدراء.
وتلقت النيابة العامة في مصر، عشرات البلاغات لم تتخذ فيها أية إجراءات بعد، مثل بلاغٍ مقدم ٍضد الممثل أحمد الفيشاوي، بسبب فيلمه “الشيخ جاكسون”، قبل أسابيع قليلة، يتهمه بأنه “قدم رجال الدين، بصورة متشددة، من أجل انتصار صاحب الرقص والفكر المعاصر على صاحب الدين والأفكار المتحررة.”
والمفارقة أن مقدم البلاغ يدعى عبد الرحمن عبد الباري، ويقدم نفسه باعتباره الأمين العام للجنة الحقوق والحريات، في نقابة المحامين بالجيزة. ولم تقتصر البلاغات على الفنانين فقط، بل تضمنت بلاغات ٍأخرى، منها بلاغ حرره محام، قدم عشرات البلاغات، على مدى سنوات، ضدّ من عبروا عن آراء مختلفة، أو مناقضة للآداب العامة في رأيه، وكان بلاغه الأخير ضد وكيل وزير الأوقاف الأسبق، الشيخ سالم عبد الجليل، بعد أن وصف الأخير أقباط مصر بأنهم كفار. ورفعآخر دعوى ضد الكاتبة فريدة الشوباشي، لانتقادها موقف وزير الأوقاف السابق، والداعية التلفزيوني الراحل محمد متولي محمد الشعراوي، من هزيمة ١٩٦٧وخصوصا جملته الشهيرة، أنه سجد شكرا لله، بعد هزيمة مصر عام ١٩٦٧، لأنه لم يرد أن تنتصر مصر “وهي في أحضان الشيوعية.”
كيف تبدأ القضايا
تبدأ قضايا ازدراء الأديان عادة عبر طريقتين: الأولى، استهداف حريات الرأي والاعتقاد والتعبير، فيكون الضحايا من الأقباط والمسلمين الشيعة وملحدين وبعض المسلمين السنة، وغالباً ما يتصيد مواطنون جملةً وردت في رأي ٍعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أو في سياق حوار مع آخرين، يقدمون على إثرها بلاغات للنيابة العامة، التي تجرى تحقيقاتها مع المتهمين، ولها أن تحيلهم إلى القضاء.
أما الطريقة الثانية فتتلخص بقيام عدد من المحامين، المنتمين إلى تيارات إسلامية سلفية في العادة، أو محافظين اجتماعيا. يرفع هؤلاء المحامون دعاوىً، ضد كتاب ومفكرين وباحثين متهمين إياهم بازدراء الأديان، كما حدث مع الممثل عادل إمام، والكاتب السينمائي وحيد حامد، والكاتبة الصحفية فاطمة ناعوت، و الباحث في الشئون الإسلامية وخريج كلية أصول الدين بجامعة الأزهر،الشيخ محمد نصر، وأستاذ العقيدة في جامعة الأزهر، يسري جعفر. وتصل بعض هذه البلاغات إلى حافة اللامعقول، حتى أن أحد المواطنين قدم عريضة إلى النائب العام المصري ضد الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، ومفتي الجمهورية التونسية، يتهمهم فيها بازدراء الدين الإسلامي وزعزعة الأمن القومي للبلاد، وذلك بسبب فتوى وتصريحات عن المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى، وإباحة زواج المسلمة من غير المسلم من أهل الكتاب.
ويرى مدير وحدة الحريات المدنية بالمبادرة المصرية، عمرو عبد الرحمن، أن هناك اختلافًا لافتًا في قضايا ازدراء الأديان مؤخرًا. ويوضح أنه ” في التسعينيات كان الإسلاميون يستخدمون هذه القضايا لمغازلة جمهورهم، وكانت الدولة تزايد عليهم بإجراءات لقمع الإبداع ومصادرة الأعمال الأدبية، فيرفع الإسلاميون دعاوى قضائية ضد أعمال أدبية وسينمائية، وترد الدولة بمزيد من ملاحقة الكتاب والمبدعين. أما في الوقت الحالي، فلا يمكن قراءة قضايا ازدراء الأديان وأحكام الإدانة الصادرة فيها بمعزل عن غيرها من القضايا ذات البعد الاجتماعي، مثل التربص بآراء المواطنين عبر الفيس بوك، أو المثليين أو أحكام الحبس ضد المغنيات. هناك ميل عام على مستويات عليا في صنع القرار لضبط الممارسات الاجتماعية، داخل نمط أبوي محافظ وتقليدي، في إطار إثارة فزع أخلاقي لدي الشعب، من أجل استعادة ما يمكن تسميته بهيبة الدولة.”
المتهم مدان قبل أن يحاكم
ويقول المحامي المدافع عن عدد من المتهمين في هذه القضايا ومؤلف كتاب ” ازدراء الأديان في مصر“، حمدي الأسيوطي، إن حوالي “٩٠% من هذه القضايا تنتهي بإدانة المتهمين، كما تعمل النيابة العامة على إضافة تهم أخرى، مثل التعدي على الأديان، حتى تتزايد الاتهامات والعقوبة.”ويرجع الأسيوطي ذلك إلى المناخ الاجتماعي السائد قائلا، “ القاضي ابن مجتمعه، وعندما تكون هناك قضية تخص العقيدة، يتأثر كل من وكيل النيابة والضابط الذي يتحرى الواقعة والقاضي بمعتقداتهم وإيمانهم ويصدرون أحكاماً بالإدانة. يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن الدين.”
ولا تنتهى عقوبة المدان في هذا النوع من القضايا بمجرد قضاء عقوبة ،حيث يضطر المتهمون لتغيير نمط حياتهم أو حتى الانتقال إلى محل إقامة جديد، خوفاً على حياتهم، خصوصاً لو كان المدان قبطياً أو شيعياً. ويقول فؤاد داوود، وهو مسيحي مصري متوسط التعليم، قضت محكمة بحبسه عامًا بتهمة ازدراء الأديان في سبتمبر ٢٠١٣، “هاجم أهل قريتي الرديسية (محافظة أسوان جنوب مصر) منزلي، وقرروا تهجير أسرتي وتسليمي إلى قسم الشرطة، لمجرد انني نشرت بوست على الفيس بوك اعتبروه مسيئاً للإسلام. بعد قضاء العقوبة تنقلت بين عدة محافظات، بحثاً عن لقمة العيش والأمان، وحتى الأن أتحمل فاتورة حكم صدر بمجرد أن اتهمني أحد الجيران أنني أسأت للإسلام.”
ولا يعتقد الأسيوطي أن هناك إمكانية حالية لحذف المادة ٩٨–و من قانون العقوبات أو تغييرها. ويقول “لسنا بصدد تجديد الخطاب الديني طالما التجديد منوط بالأزهر فقط. في رأيي، لا توجد إرادة سياسية لدى القائمين على الحكم، بتجديد الخطاب الديني، وتغيير المناهج، خصوصاً التي تحث على الكراهية والتشكيك في الأديان الأخرى، بخلاف الإسلام.” ويؤكد عبد الرحمن أن، ” هناك تصاعدًا لنزعة وطنية محافظة في مصر والمنطقة، تعبر عن نفسها بهوس ضبط السلوك الاجتماعي، وتحويل أي ممارسة إلى إشكالية أمنية يجب التدخل للتعامل معها. رئيس الجمهورية يعتبر نفسه صورة لزعيم وطني محافظ، وبالتالي مؤسسات الدولة تقوم بهذه الممارسات، التي تضيق الحريات وتنتهك حقوق المواطنين.”
ويقر وزير الثقافة، حلمي النمنم، بصورة ما بعدم وجود إرادة حقيقة لإلغاء هذه المادة. وقال في حواره مع الإعلامية إيمان الحصري، مقدمة برنامج “مساء دي إم سي” أن الدكتورة آمنة نصير، عضو مجلس النواب، تقدمت بطلب برفقة عدد من النواب بتعديل المادة، إلا أن البرلمان رفض..
http://daraj.com/Article/2203/قانون–ازدراء-الأديان–في-مصر-سيف-مسلط-على-أقلياتها