محمد المنشاوي ـ مدى مصر ـ
جاءت أخبار تعاقد الحكومة المصرية -ممثلة في جهاز المخابرات العامة- مع شركتين أمريكيتين (إحداهما شركة لوبي سياسي تقليدية مقرها واشنطن، والأخرى شركة علاقات عامة مقرها نيويورك) لتثير الكثير من الاستغراب وتطرح العديد من الأسئلة.
فقد كشفت وزارة العدل الأمريكية، نهاية فبراير الماضي، عن تعاقد جهاز المخابرات المصرية يوم 18 يناير الماضي مع شركة كاسيدي أند أسوشيتس Cassidy & Associates مقابل 50 ألف دولار شهريًا، ومع شركة ويبر شاندويك Weber Shandwick مقابل 100 ألف دولار شهريًا، أي ما مجموعه 1.8 مليون دولار سنويًا، بالإضافة إلى المصروفات الإدارية وأية مصرفات تتعلق بمهام خاصة.
وطبقا لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب» رقم 22-611، الصادر عام 1938 والذي ينظم عمل شركات اللوبي مع حكومات أجنبية، فإن جميع الشركات الممارسة لتلك الأنشطة داخل الولايات المتحدة يتعين عليها أن تودع لدى وزارة العدل الأمريكية صورة من العقد المالي، وتسجيلًا وتوثيقًا لكل الأنشطة والاتصالات ذات الطبيعة السياسية أو شبه السياسية التي يقوم بها الوكيل الأمريكي نيابة عن حكومة أجنبية.
التعاقدان الجديدان يتضمنان مهام تقليدية، خلاصتها أن الشركتين ستساعدان الحكومة المصرية على الترويج لمواقفها في واشنطن، بالتركيز على الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا، وعلى أهمية دور مصر في حل أزمات منطقة الشرق الأوسط، إضافة لإبراز التطورات الاقتصادية مثل اتفاق القاهرة مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وعرض الخصائص الرئيسية للمجتمع المدني، والترويج للدور المصري كمحور رئيسي في مجابهة الأخطار الإقليمية.
لكن ما أثار انتباه دوائر السياسة والإعلام الأمريكية هو أن واشنطن لم تعتد من قبل أن تشهد تعاقدًا مباشرًا لأجهزة مخابرات أجنبية مع شركات لوبي أمريكية للقيام بأنشطة تتعلق بتحسين الصورة والعلاقات العامة ومساعدة الحكومة في تحقيق أهدافها من علاقاتها مع واشنطن.
الأمر أيضًا غير مسبوق بالنسبة للحكومة المصرية، فتقليديًا كانت السفارة المصرية في واشنطن تقوم بإبرام التعاقد، ويوقع السفير ممثلًا للحكومة المصرية على هذه الوثائق، أما هذه المرة فإن الطرف المصري في التعاقد هو اللواء خالد فوزي، بصفته «المدير العام لجهاز المخابرات العامة»، وعنوانه المسجل في العقد هو شارع المطرية، قصر القبة بالقاهرة، وهو مقر الجهاز، ومن وقع نيابة عنه هو اللواء ناصر فهمي بصفته «مدير الشئون الإدارية بجهاز المخابرات العامة».
يتركنا ذلك مع عدة ملاحظات هامة، منها ما يتعلق بتوقيت التعاقد الجديد والذي جري يوم 18 يناير، أي قبل يومين فقط من تسلم دونالد ترامب مهامه الرئاسية. ويعني ذلك عمليًا أن عملية القيام بالبحث وتحديد الشركتين والتفاوض معهما وصولا للتوقيع ربما بدأت مع فوز ترامب بالانتخابات في 8 نوفمبر الماضي، وربما قبل ذلك. كما يحتمل أن يكون التوقيت مرتبطًا أيضًا بالزيارة المتوقعة للرئيس السيسي لواشنطن، والتي تضغط القاهرة للقيام بها في أسرع وقت ممكن لأسباب لا تفهم واشنطن المنطق وراءها.
الملاحظة الثانية هي أن لجوء المخابرات المصرية للتعاقد مع شركتين جديدة يأتي على الرغم من وجود تعاقد قائم بين السفارة المصرية في واشنطن مع شركة لوبي كبيرة تدعى مجموعة جلوفر بارك Glover Park Group، منذ أكتوبر 2013، ومقابل ثلاثة ملايين دولار سنويًا تسددها دولة الإمارات العربية المتحدة. فهل تم إبرام التعاقدين الموازيين بالنظر إلى أن الشركة القديمة محسوبة على الديمقراطيين، وعليه فإن التعاون معها لن يكون ذا جدوى مع بيت أبيض وكونجرس يسيطر عليهما الجمهوريون؟ أم أن هناك طريقة لقياس العائد من التعاقد القائم أسفرت عن تقييم سلبي من الجانب المصري (أو الإماراتي)؟ أم أن زيادة عدد الشركات المتعاونة بالتوازي مع الحكومة المصرية في واشنطن يعكس رغبة في إضفاء المزيد من الفاعلية للجهود والضغوط المصرية في العاصمة الأمريكية؟
الملاحظة الثالثة، والأهم، تتعلق بجهة التوقيع على العقد، والمتمثلة في جهاز المخابرات العامة؛ حيث أن المتعارف عليه أن تغلف أعمال وأنشطة هذا الجهاز سرية كبيرة لا تسمح له أن يكون جزءً من الأخبار المتداولة. ويتركنا ذلك أمام سيناريوهين: أولهما يفترض عدم معرفة قادة الجهاز بالقوانين والتقاليد الأمريكية التي تقضي بنشر هذه التعاقدات وتفاصيل الأنشطة والخدمات المقدمة بموجبها لاحقًا، ومن ثم يكون نشر تلك الوثائق قد مثل مفاجأة غير سارة لم يخطط لها.
أما السيناريو الثاني فيفترض معرفة قادة الجهاز وعدم اكتراثهم بالعلانية ونشر التفاصيل، بل وربما رغبتهم في بعث رسالة للرئاسة المصرية تستعرض فيها المخابرات العامة عضلاتها داخل واشنطن، مع إظهار ما تراه ضعفًا في أداء وزارة الخارجية المصرية وعدم قيامها بمهامها على الوجه الأكمل في العلاقات الثنائية مع حليف مصر الأهم.
ويرتبط بما سبق تساؤل حول ما إذا كانت الشركتان الجديدتان ستساعدان أيضًا الدبلوماسيين المصريين في واشنطن، والعاملين بملحقية وزارة الدفاع. هل ستقدم لهم نصائح وخدمات؟ وهل سترسل لهم تقاريرها الدورية وتنظم لهم اجتماعات مع شخصيات نافذة في الإدارة الأمريكية وممثلي وسائل الإعلام وأعضاء الكونجرس ومعاونيهم؟ أم أن خدماتها ستقتصر على العدد القليل من ممثلي جهاز المخابرات العامة المقيمين في العاصمة الأمريكية؟!
***
من ناحية أخرى، جاءت أخبار هذين التعاقدين في وقت تدعو فيه الحكومة المصرية مواطنيها والعاملين فيها للتقشف، خاصة فيما يتعلق بالإنفاق بالعملات الأجنبية، وبالأخص الدولار الأمريكي. فقد أغلقت القاهرة على سبيل المثال مكاتب إعلامية في واشنطن ونيويورك، تتبع الهيئة العامة للاستعلامات، بدعوى توفير النفقات. وفي ذات الوقت نرى الحكومة نفسها تتعاقد مع شركتين مقابل 150 ألف دولار شهريًا. فهل لنا أن نسأل عما إذا كانت هذه التعاقدات تمثل عبئًا على موازنة الدولة المصرية، أم أن تكلفتها ستسدد من جهة خارجية ما مثلما الحال مع شركة جلوفر بارك؟
وما يثير الاستغراب والشفقة معًا هو وصلت إليه قناعات حكومية مصرية من ضرورة القيام بعمليات تجميل في واشنطن، وبجدواها. فالحقيقة أنه طالما استمر التنكيل بالمعارضين السياسيين، وطالما استمر التضييق على الحريات، وطالما استمرت الأحكام القضائية التي تحمل شبهات تسييس واضح، فإن هذا سيعني استمرار خسارة الحكومة المصرية لأى تعاطف من الدوائر الأمريكية الهامة، ولن تتوقف افتتاحيات صحف مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست عن التنديد بما تراه من أخطاء حتى لو سيطر على البيت الأبيض أو البنتاجون أصدقاء للحكومة المصرية.
قبل شهور قليلة سألت وزير الدفاع الجديد الجنرال ماتيس عن رؤيته لطبيعة العلاقات العسكرية بين القاهرة وواشنطن، ورد بقوة داعيًا لضرورة مساندة النظام المصري في هذه المرحلة المضطربة من تاريخ الشرق الأوسط. وفيما نادى الجنرال بضرورة استئناف مناورات النجم الساطع بين الجيشين المصري والأمريكي، إلا أنه أكد ضرورة تغيير طبيعة المناورات لتركز على تدريبات مكافحة الإرهاب، وليس على حروب المدرعات التقليدية بين جيشين نظاميين. ورغم التسهيلات الأمريكية الظاهرة، تبقى بعض الاختلافات بين القاهرة وواشنطن على خلفية نقطتين مهمتين، الأولى تتعلق بطريقة تمويل شراء الأسلحة الأمريكية الجديدة، بينما تتعلق الثانية بطبيعة ونوعية هذه الأسلحة. في الوقت ذاته لا تبدو القاهرة مدركة لحقيقة أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري يتفقان على عدة نقاط فيما يتعلق بمصر، على رأسها استبعاد إحداث أي تغيير في استراتيجية واشنطن للتعامل المستقبلي مع الجيش المصري ونظم تسليحه وطريقة تمويل مشترياته الأمريكية، وذلك على الرغم من وقوف ترامب في نفس جانب النظام المصري في العداء للربيع العربي وتبعاته.
***
بعد أشهر قليلة من الآن ستنشر وزارة العدل الأمريكية -طبقًا لقوانينها- تفاصيل الأنشطة والخدمات التي ستقوم بها الشركات الأمريكية خدمة للحكومة المصرية، بما فيها من مراسلات إلكترونية ومكالمات هاتفية واجتماعات وتسهيل مقابلات لمسؤولين مصريين ونشر بيانات صحفية وحملات دعائية وغيرها. فهل تبادر الجهات الحكومية المصرية بامتلاك الشجاعة ونشر هذه التفاصيل شهريًا، وذلك قبل حصول الإعلام عليها من وزارة العدل الامريكية؟ وقتها فقط سنعرف إذا ما كانت تلك الشركتان الجديدتان تُخدمان على كل ممثلي الدولة المصرية في العاصمة الأمريكية، أم أن خدماتهما تقتصر فقط على البعض منهم.
***
في النهاية يبقى التساؤلات: هل يأتي التعاقد المباشر الجديد لجهاز المخابرات العامة مع شركات اللوبي (إضافة للتعاقد الموجود بين السفارة وشركة أخرى) كمؤشر على تصاعد خلاف ما بين وزارة الخارجية من جهة وبين جهاز المخابرات العامة من جهة أخرى؟ هل نشهد منافسة بين الأجهزة على إرضاء مؤسسة الرئاسة؟ هل يقصد جهاز المخابرات العامة إظهار عجز ومحدودية وعدم كفاءة وزارة الخارجية في التحرك داخل واشنطن؟ ومن يضع حدود وقيود تمثيل الدولة المصرية في أهم عواصم العالم؟
… أسئلة يمكن طرحها من واشنطن، ولا يمكن الإجابة عنها إلا من القاهرة.