وحيد حامد ـ المصري اليوم ـ
فى رأيى الشخصى، أنها بدعة ابتدعها حضرات السادة المشايخ على عجل، وهى غير مفهومة المقاصد والأهداف، وإن زعموا غير ذلك.. فلو كان الهدف إتاحة منافذ الفتوى وتيسير أمورها، فإن مكانها لا يكون أبداً على أرصفة محطات المترو، حيث عدم صلاحية هذه الأماكن لمثل هذا الأمر، حيث إن راكب المترو دائماً على عجل سواء كان ذاهباً إلى عمله أو عائداً منه.. كما أن محطات المترو ليست مكان تجمع أصلاً، فهى تستقبل الركاب وتدفع بهم فى حركة دائمة وسريعة لا تسمح بالتكدس، بالإضافة إلى أن «الفتوى» ليست مجرد سؤال وجواب؟، وإنما قد تحتاج إلى بحث وفحص وتمحيص حتى تخرج فى النهاية سليمة وصحيحة، وهذا الأمر يتطلب وقتاً ربما يطول عن وقت الانتظار للقطار المقبل أو الذاهب..
ثم إن مسألة «الفتوى» برمتها ليست بالمسألة العاجلة والملحة التى لو تأخرت فإن حياة أهل مصر ستفسد؟ ولو أن أصحاب هذه البدعة سواء كانوا مشايخ أو رجال سياسة أو لواءات أو مجرد موظفين كبار أصابت عقولهم البلادة منذ وقت طويل.. لو كانت نواياهم صادقة فى تسهيل خدمة الإفتاء فى أمور الدين وأعملوا عقولهم التى أكلها الصدأ لأدركوا أن المكان الطبيعى لوجود مشايخ للفتوى هو المساجد وهى لا تحصى ولا تعد وهى موجودة بكثرة فى كل مدينة وقرية، ولن نذكر المساجد الضرار التى أقامها أهل النطاعة والتنطع فى محطات القطارات والأماكن التى لا تليق بإقامة المساجد أصلاً.. تواجد مشايخ الفتوى فى المساجد يليق بالفتوى ويليق بهم، حيث إن الفتوى ليست زجاجة مياه يطلبها عابر عطشان أو علبة سجائر يطلبها مدخن خرمان، وليست باكو لبان.. وفى رأيى الشخصى كمسلم يعتز بدينه أن هذه البدعة تحمل إهانة للدين نفسه وتستخف به وتتعامل معه على أنه مجرد بضاعة يجب تسويقها بأى شكل دون الاقتراب من جوهر الدين وفهم مقاصده.
ثم تعالوا بنا نسأل دون أن نتخلى عن براءة السؤال.. لماذا استهداف ركاب المترو دون غيرهم فى أكشاك الفتوى؟.. أليس لركاب النقل العام حق فى الحصول على الفتاوى الجاهزة والمعلبة..؟ كذلك ركاب القطارات والميكروباص وما هو نصيب أهل مدن الجمهورية وجميع القرى والعزب والكفور؟!.. فإذا كان قصد الجهة صاحبة هذه البدعة والمنفذة لها هو إحداث فرقعة إعلامية فإن المصيبة تكون محتملة إلى حد ما.. أما إذا كان القصد هو التخطيط والعمل على إقامة الدولة الدينية فى مصر فهذه هى الكارثة التى يجب أن نقاومها جميعاً بكل ما نملك من وعى وإرادة.. الحفاظ على مصر دولة مدنية مسألة حياة أو موت.. دولة مدنية تدين بالإسلام والمسيحية.. وأعتقد أن الشعب المصرى قادر بالوعى الفطرى الذى يملكه أن يوقف زحف الدولة الدينية الآخذ فى النمو والتطور.. والدولة المنوط بها الحفاظ على الهوية المصرية تدّعى الخرس والصمم وكأن الأمر يوافق هواها ومقاصدها وهنا الكارثة التى تحمل نهاية الدولة المصرية بلا مبالغة.. لأن الشواهد والواضح من أحوال المجتمع المصرى أنه فى حالة تحول تدريجى إلى الأسوأ.. فالدولة المصرية الآن وإن بدت متماسكة من الخارج فإنها هشة هشاشة عش النمل بفعل الفوضى التى تحولت إلى كيان جهنمى يتوسع يوماً بعد يوم.. الفوضى هى الحاكم الحقيقى لهذا البلد وهى التى تفرض إرادتها فى جميع الأحوال حتى إنها صارت هى التى تسن قوانينها وتفرضها على الناس وأيضاً تطبقها حسب شريعتها لا حسب شريعة أصحاب أكشاك الفتوى.
لا يمكن لأى مجتمع أن يعيش وينمو ويتطور دون قانون صارم يحميه ويصون هويته ويفرض الحق ويزيل الباطل، الآن الحق مقهور ومذل ومهان والباطل يصول ويجول بكل انطلاق وحرية وكفاءة عالية؟!.. دولة تعيش كل المتناقضات فى آن واحد، تخوض حربا ضروس فى سيناء ضد الإرهاب وأطراف المدن فى الداخل ومع هذا تترك دعاة الإرهاب والمحرضين عليه رغم أنها تعلم أنهم يمارسون نشاطهم الإجرامى من خلال قنوات التليفزيون الخاصة وغير الخاصة، ولا أقصد القنوات المعادية بل أقصد القنوات المصرية التى تحمل ترخيصاً مصرياً.. نترك العناصر الإخوانية ثابتة ومثبتة فى أمكانها بكل مفاصل الدولة كأنها قنابل موقوتة جاهزة للانفجار فى الوقت الذى تحدده الجماعة الباغية، وغالباً ما تكون الضربة مباغتة وموجعة جداً.. وأنا شخصياً أتابع بشغف نتائج التحقيقات فى انقطاع التيار الكهربائى عن المطار الدولى؟؟.. عادت جماعة الإخوان إلى فرض وجودها فى الشارع المصرى من خلال الملصقات على زجاج السيارات، ونشر شعاراتها فى الزوايا والمساجد الصغيرة ونشط دعاتها من جديد ويتم تسجيل الأهداف من خلال هذا التسلل الظاهر للجميع.. ويتم النظر إلى هذا الغزو البطىء على أنه من الأمور العادية.. لدينا من الدعاة أصحاب الرأى المستنير العشرات.. بل المئات.. ومع هذا يحتل الساحة اليمنى والسلفى والإخوانى الهوى والنصابون الجدد الذين يرتدون الملابس ذات الماركات العالمية.. وكأننا نرغب ونطلب من يخدعنا ويزيف عقائدنا الثابتة ويقودنا إلى الضلال الفكرى بلغة لاعبى التلات ورقات وهم أصحاب المنزلة والمكانة فى مجتمع أجبر على التخلى عن عقله.. فإذا كان القصد هو إلهاء الناس فى مصر عن فضيلة إعمال العقل والدفع بهم إلى الإيمان بالغيبيات وأمور الدروشة حتى يتحول المجتمع إلى مجتمع داجنى يلتقط الحبوب المتناثرة إن وجدت ويعيش السلام فى حظائره فذلك هو الخطأ الذى يأتى بأعظم الكوارث، حيث يتحول الإنسان إلى كائن رخوى فاقد الهمة فاقد العزيمة فاقد الأمل لا يقدر على قتال أو عمل أو حتى تفكير كأنه أحد الطحالب التى تعيش فى المياه الضحلة، وهى الحالة التى تقترب منا الآن بعد أن تم القضاء تماماً على ثقافة العمل وإحلال ثقافة التسول مكانها، وبعد نجاح كل محاولات إلغاء العقل بامتياز وإخضاع أدق تفاصيل الحياة إلى مرجعية دينية حتى بات الفكر مقيداً والإبداع مكبلاً وإعمال العقل مجرماً رغم أن إعمال العقل هو أمر من المولى عز وجل لكل البشر..
انظروا إلى حالنا.. الدولة.. وكل أجهزة الدولة.. والجمعيات الأهلية.. ودور الرعاية.. وجميع مستشفيات البلد.. كلها فى حالة سعار لجمع التبرعات حتى صارت الجهات التى تطلب التبرع أكثر من الجهات المانحة للتبرع.. لم نر أى مصنع صغير أو كبير.. أو حتى مشغل وكأننا لم نسمع قط بالمثل الصينى الذى يقول «بدلاً من أن تعطينى سمكة علمنى الصيد»، فى ظل هذا المناخ الراكد يجد التيار السلفى الداعشى فرصته الفريدة لينتشر ويتوغل فى هذا المجتمع الآسن بمباركة من أجهزة الدولة المختلفة وهو يخترق طبقات المجتمع اختراق السكين لقالب الزبد، وها هو الحجاب الذى اختلفنا فى شأنه يكاد يختفى ويحل محله النقاب الأسود أو البنى، ويناطح الدكتور «برهامى» شيخ الأزهر فى المكانة ويصبح «مخيون» رجل الدولة المدلل و«حسان» الذى يبدل فى النساء والسيارات وصولاً إلى هذا السلفى الشاب الذى يملأ الدنيا هوساً وضجيجاً ويسمى سامح، وهناك فرق كبير بين الدين وبين الهوس الدينى، أجهزة المحمول بدل الرنات المتعارف عليها تسمع أدعية وابتهالات وآيات قرآنية وكل ما يخطر لك على بال.. أما إذا بحثت عن الدين نفسه فى داخل هؤلاء فإنك لن تجده.. مصر الوسطية تسقط والدولة تشاهد وترى وتبارك وترحب دون أن تدرك أن العواقب ستكون وخيمة ومؤسفة.. ومن المحزن حقاً أن مصر التى كانت الرائدة حضارياً وإنسانياً قد حاربت الوهابية فى عقر دارها فى عهد محمد على باشا صانع نهضة مصر الحديثة لما لها من خطر جسيم أدركه الرجل بفطنته السياسية، المحزن حقاً وفى هذا الزمان أن تغزونا السعودية بالوهابية ودون حرب أو قتال وإنما بالمال لتحتل أفكار وعقول نفرغير قليل من أهل مصر بعضهم من أصحاب المناصب الدينية ذات التأثير المباشر على العامة والخاصة معاً حتى بات المجتمع المصرى مشبعا بلقاح الداعشية، ونعجب ونندهش ونضرب كفاً بكف ونقول كيف؟ ولماذا؟ عندما نصدم بأن الجيل الجديد من الإرهابيين هم شباب إما تحت العشرين أو فوق العشرين بقليل.
كل هذا لأن الدولة غائبة تماماً عن المشكلة الأهم وهى تربية المواطن ثقافياً وحضارياً وأخلاقياً ودينياً فى الاعتبار الأول.. ولكن للأسف الشديد الدولة متاحة ومباحة لكل الأفكار الهدامة والمغلوطة وأيضاً المنحرفة.. إن القضاء على الفكرة الضالة والفاسدة أهم بكثير من القضاء على حاملها.. ونحن للأسف نقضى على حامل الفكرة دون أن نقضى على الفكرة الضالة ذاتها ربما لأنها ليست مجسدة أو كائنة أمام أعيننا.. والنتيجة النهائية هى استمرار نزيف دماء الأبرياء.. ومبروك على الدولة جميع أنواع الأكشاك من الخضار إلى الفتوى.. وقريباً بإذن الله أكشاك التقوى.. ليرحمنا الله.
http://www.almasryalyoum.com/news/details/1172557