عمرو حمزاوي
أدرك أن حكايات الألم والحزن والخوف تحيط الكثيرين بجدران صماء ليس للأمل في غد أفضل لاختراقها من سبيل، وتغلف حياتهم اليومية بسدائل سوداء ليس لضوء النهار أن ينفذ منها إلى دواخل المكلومين والمعذبين. لست بمتجاهل لحكايات مواطنات ومواطنين يسلب حريتهم حكم سلطوي لا يقبل الرأي الآخر ويعتمد القمع أسلوبا للسيطرة على المجتمع وضبط الناس، ولا لحكايات الأسر المكلومة لشهداء القوات المسلحة والشرطة والشهداء المدنيين الذين تنتهك عصابات الإرهاب حقهم المقدس في الحياة في سيناء وفي مناطق أخرى. لست بعازف عن الاستماع لحكايات ذوي ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة كجرائم القتل خارج القانون والتعذيب والاختفاء القسري التي ترتكبها أجهزة أمنية مدعومة من الحكم ومتفلتة من كل مساءلة ومحاسبة، أو إلى الحكايات المفزعة لضحايا العنف والتحرش الجنسيين والعنف المنزلي من النساء والأطفال الذين يصر مجتمع أدعياء الفضيلة على تسفيه عذاباتهم. أدرك كل ذلك جيدا، وأكتب عنه مختصما للسلطوية الحاكمة ومدينا لجرائمها مثلما أدين جرائم عصابات الإرهاب وأدعياء الفضيلة.
غير أن حكايات الأقباط، وبعد أن فرضت عليهم خطابات الكراهية والطائفية والتطرف هوية «الأقلية الخائفة» وأجبرتهم تقلبات شؤون الحكم على الالتحاق الجماعي بقطار سلطوية تعجز عن حمايتهم وتزج البلاد بقمعها إلى دوائر لا نهائية من العنف، تدلل بوضوح بالغ على عمق الأزمات المجتمعية والسياسية التي تعصف اليوم بمبادئ مواطنة الحقوق والحريات المتساوية وبالسلم الأهلي في بر مصر. كما أن أحوال المسيحيين في بلدان عربية أخرى، من العراق الذي يتعرض به الايزيديون لجرائم ضد الإنسانية وسوريا التي تتعقب بها عصابات الإرهاب والتطرف الأسر المسيحية وتنتقم من أفرادها بدموية ووحشية وبعمليات تهجير مفزعة إلى التراجع المستمر في أعداد اللبنانيين المسيحيين بفعل الارتحال والهجرة، تجعلنا أمام وضعية إقليمية بائسة تهدد مسيحيي العرب ومنهم أقباط مصر في مقومات الوجود والبقاء.
«أدينا واجبنا، دعينا نغادر الكنيسة قبل أن يأتي أحد المجانين ويعتدي علينا،» هكذا كانت الكلمات التي اخترقت مسامعي في صحن كنيسة قاهرية في حزيران / يونيو 2015. نطق بها مسن قبطي في حديث متعجل لرفيقته ما أن انتهت صلوات الجنازة على روح السيدة التي حضرا للمشاركة في وداعها، وكنت حينها بين المودعين. قبلها، في عامي 2013 و2014، سمعت كلمات مشابهة تنطق هي أيضا بحزن وألم وخوف الأقباط تارة إزاء تصاعد وتيرة الاعتداءات على الكنائس (خاصة في الصعيد) وتارة بسبب تراكم جرائم العنف الطائفي وتخاذل مؤسسات الحكم والأجهزة الرسمية عن تطبيق القانون لمساءلة ومحاسبة المتورطين فيها (المجالس العرفية كبديل للقانون والعدالة الناجزة). وقبل ذلك، تحديدا بين 2011 و2012، تكرر اقترابي من حكايات الأقباط الذين شاهدوا بعض كنائسهم تحرقها مجموعات كراهية وتطرف وعنف (كما في أحداث قرية أطفيح التابعة لمحافظة الجيزة وأحداث كنائس حي إمبابة بمحافظة الجيزة في ربيع وصيف 2011). وعندما تنادى نفر منهم للاحتجاج السلمي ولمطالبة الحكم بتوفير الحماية لدور عبادتهم وضمان أمنهم، دهستهم مجنزرات عسكرية وشرطية في قلب القاهرة (مذبحة ماسبيرو في خريف 2011). آنذاك، كنت من بين أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان، وشاركت في أعمال لجان «تقصي الحقائق» التي تشكلت في أعقاب الاعتداءات على الكنائس وبعد دهس المحتجين السلميين، وحضرت جلسات الاستماع التي نظمها المجلس القومي واستدعى إليها خليطا من ذوي الضحايا وشهود العيان ومسؤولين عسكريين وشرطيين (بينما حضر بعض ذوي الضحايا وشهود العيان، ابتعد العسكريون والأمنيون في المجمل عن جلسات الاستماع وتكفلت مؤسساتهم القوية بتحصينهم من المساءلة).
اقتربت من حكايات الأقباط بين 2011 و2015، واستمعت إليها دون مقاطعة أو تأويل. واختزنت الذاكرة، بجانب كلمات الحزن والألم والخوف، بعض المشاهد المفزعة التي لم تفارقني أبدا. مشاهد لكنائس محترقة تناثرت في صحونها قطع زجاج مكسور وحجارة كثيرة (هكذا كان مشهد كنيسة السيدة العذراء في حي إمبابة في أعقاب الاعتداء عليها في أيار/مايو 2011)، ومشاهد لنعوش شهداء الدهس وهم يحملون إلى داخل الكاتدرائية المرقسية لأداء صلوات الجنازة على أرواحهم وسط صرخات ذويهم المكلومين وخليط من الغضب والوجوم والخوف أمسك بوجوه حاضرين آخرين (جنازة شهداء ماسبيرو في تشرين الأول / أكتوبر 2011).
غير أن ارتحالي إلى بلاد الجهة الأخرى في صيف 2015، أنهى اقترابي من حكايات الأقباط وحولني إلى مكلوم عن بعد. أفتش عن أصوات الضحايا ما أن تقع الجرائم والاعتداءات الإرهابية الآثمة على الكنائس وعلى المرتحلين إلى الأديرة وعلى من يهجرون من ديارهم لأسباب طائفية، فلا أجد في الصحف ووسائل الإعلام سوى نقل بالغ السطحية لما «شاهدوا» حين وقعت تلك الجرائم والاعتداءات وليس لما «يشعرون به ويفكرون فيه ويتخوفون منه» في أعقابها. أبحث عن لقاءات متلفزة أو تسجيلات صوتية مع أقباط يعيشون في ربوع مصر المتنوعة توثق الحزن والألم والخوف، وبالقطع الغضب، في مواجهة حكم يزعم زيفا حمايتهم ويحتكر الحديث باسمهم، فلا أجد ما يستحق الالتفات. أبحث عن أحاديث لأقباط يخاطبون الأغلبية المسلمة ألا تتنصل من مسؤوليتها في ممارسة التضامن الحقيقي بالانتفاض دفاعا عن حقهم في الحياة الآمنة في بيوتهم ودور عبادتهم وفي الفضاء العام، فلا أجد ما يستحق الذكر. وفي مقالات الرأي الصحافية وبرامج الحوار التليفزيونية، لا شيء غير إطلاق اللعنات باتجاه الإرهابيين والمتآمرين والممولين مصحوبا بالمطالبة بالحسم الأمني والقضاء على الإرهاب. على حتمية إطلاق اللعنات وعلى أهمية التفكير في سبل القضاء على الإرهاب، يظل شاسعا البون بين الأمرين وبين تدوين أمين لرؤية الأقباط لحالهم اليوم في مصر وحال مقومات وجودهم وتداعيات تقلبات شؤون الحكم عليهم وخوفهم المشروع من الحاضر والمستقبل.
خطر عظيم أن تضيق مصر على الاستماع إلى حكايات الأقباط وتعجز عن تدوينها بأصوات الضحايا، مثلما هي كارثة حقيقية أن تواصل السلطوية الحاكمة إغلاق الفضاء العام في وجه أصوات ضحاياها، ضحايا جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان.
كاتب من مصر