in Arabic مسجد فى الكومباوند

مسجد فى الكومباوند

-

أمينة خيري – المصري اليوم ـ 

زمان قبل دخول الإسلام مصر، كانت مميزات مثل «ناصية» أو «بحرى» أو «صف أول على البحر» أو «تراه» أو «قريبة منه» أو «غير مجروحة» أو «قريبة من المحطة» أو «أول سكن» نقاط القوة وعوامل جذب المشترى أو المستأجر للشقة السكنية. وقد ظلت هذه المميزات والعوامل تهيمن على أسعار الشقق وأفضليتها إلى أن دخل الإصدار الجديد من الإسلام البلاد، وهو الإصدار نفسه الذى جعل الأستاذ صفوت حجازى يطمئن ويرتاح ويغتبط بظهور المذيعة الأولى المحجبة على شاشة التليفزيون المصرى إبان حكم الجماعة بقوله: «أدركت أن الإسلام دخل مصر»!

وعلى الرغم من الإنكار الفاضح فى مبنى ماسبيرو طيلة سنوات طويلة مضت بأن الغالبية المطلقة من نساء مصر من المسلمات أصبحن يضعن غطاء على الشعر، إلا أن التاريخ وحده سيحكم إن كان الإسلام دخل مصر عبر المذيعة المحجبة، أم ملصقات «لا إله إلا الله محمدا رسول الله» على زجاج السيارات، أم بإلغاء «صباح الخير» وتعميم «السلام عليكم» أم قبل ذلك أم بعده؟!

لكن ما يهم هو أن الكثير من المعايير والمقاييس المتبعة فى الحياة فى مصر تغيرت وتبدلت بعد دخول هذه النسخة تحديداً من الدين أو التدين. ونعود إلى معايير تسويق الشقق وكذلك الفيلات. لم تعد الناصية أو الاتجاه البحرى أو ما شابه من النقاط الجاذبة لكثيرين. وقد أدركت ذلك حين صارحتنى صديقة «محجبة» بأن الشقة التى دفعت وزوجها فيها تحويشة العمر أصبحت مصدراً للقلق وقلة النوم. فالشقة تقع فى مواجهة مسجد ضخم وخلفها مسجد آخر ضخم وعلى أول الشارع مسجد ثالث ضخم، وفى كل أذان تتبارى المساجد الثلاثة الضخمة فى استعراض قوة عشرات الميكرفونات المثبتة فى كل ركن من أركانها، وهو ما يصب فى داخل شقتهما المليونية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كثيراً ما تقام الصلوات نفسها عبر الميكرفونات، بالإضافة بالطبع إلى صلاة التراويح كاملة فى رمضان، وخطب الجمعة التى يتبارى الخطباء فى جذب المسلمين إلى الدين وتحبيبهم فيه عبر الصراخ المستمر والتهديد المتواصل بنار جهنم وعذاب القبر. ومع الاستعانة بالسايس مرة، والبواب مرة، والمكوجى مرة ليؤذنوا للصلاة بأصوات ما أنزل الله بها من سلطان، باعت صديقتى شقة العمر. وهى عملية البيع التى سبقتها محاولات عدة لإقناع القائمين على أمر المساجد بخفض الصوت، أو تقليص عدد الميكروفونات، فتراوحت الردود بين غلظة الاتهام بأن من يطلب مثل هذه الطلبات كاره للدين مرجح لكفة الابتذال والهلس وسماحة الدعاء بالهداية ومراجعة مثل هذه المطالب التى تثير الشك حول درجة الإيمان.

درجات الإيمان التى باتت تصنف اعتماداً على مفردات فى الكلام، ومحددات فى المظهر، وإلغاءات فى العقل، وإغلاقات فى القلب، وانتقاءات فى التفسير، وسمات بعينها دوناً عن غيرها قادرة على نقل الشخص من مؤمن عادة إلى مؤمن بشرطة هى التى باتت تتحكم فى نسبة كبيرة منا. نسبة كبيرة- إن لم تكن الغالبية- من المعلنين عن شقق وفيلات سكنية جديدة يعتبرون «المسجد» ودرجة القرب منه عاملا تسويقيا قويا. حتى فى المنتجعات أو الكومباوندات السكنية التى لا يوجد فيها مسجد (حتى وإن كان هناك مسجد على باب الكومباوند) تجد فئة من السكان تهرع إلى جمع التبرعات، لا لمحو أمية العمال، أو تعليم من يحتاج بديهيات النظافة الشخصية أو قيمة العمل أو حتى تجهيز قاعة للموسيقى أو مكاناً للقراءة، على الرغم من الاحتياج الشديد جداً لهذه النواقص. تجد المساجد محيطة بالمكان، لكن الأولوية تكون لبناء مسجد إضافى.

ومنعاً من محاولات الصيد فى المياه العكرة، أو استنفار قرون استشعار الهجوم ووجوب نعت الآخرين ممن يضعون احتياجات المواطنين الثقافية والترفيهية والاقتصادية والاجتماعية على رأس قائمة الأولويات، فإن الغرض من هذا المقال ليس الهجوم على بناء المساجد، أو معارضة زيادة بيوت الله، أو منع الناس من الصلاة، أو نشر الإلحاد وبث الفسق والفجور، لكن الغرض هو البحث والتنقيب فى الفكرة من بناء مسجد، رغم وجود مسجد على مرمى حجر، ورغم نقص بالغ وشديد وعميق ورهيب فى جوانب الحياة الأخرى. فتدنى الأخلاق وتحلل السلوكيات وتبخر الشهامة وتقلص الأدب وتحول البعض من خانة البشر إلى مصاف الغيلان والوحوش فى أدق تفاصيل حياتها اليومية لن يصلحه بناء المزيد من المساجد، ولن يضبطه الصراخ بنبرة أعلى فى مكبرات الصوت، ولن يرممه بث صلاة التراويح فى داخل غرفة نوم كل مواطن.

سبل الإصلاح متعددة المناهل والمناهج. وسبل الدفاع والهجوم على من يجرؤ بالتساؤل عن الفائدة التى تعود على المواطن بالتأكيد على وجود مسجدين بين كل مسجد ومسجد. من الواضح جداً أن احتياجاتنا الثقافية والفكرية أكثر بديهية وبدائية من «تجديد الخطاب الدينى». نحن فى حاجة ماسة إلى مراجعة ما نحن عليه بوجه عام. ولنا فيما قاله الشيخ سالم عبدالجليل عبرة، وهو الرجل المعروف بتفتحه وتنويره ووسطيته (وإن كانت كلمة وسطية باتت غير معروفة المغزى). ألم يحن الوقت بعد لننظر فى مرآة تكشف لنا ما جرى لنا دون خوف من مشايخ الترهيب، أو قلق مما قد ينعتنا به الأستاذ فلان أو الحاجة علانة؟ هل هو نوع من الجنون أن تكون لوحة الأرقام فى دراجة نارية «صلى على النبى»؟!

أم هو درجة من درجات الإيمان؟ وهل هو ضرب من الجنوح أن تسمح لنفسك بملصق بعرض زجاج السيارة لإشهار ديانتك وإن قام صاحب ديانة أخرى بالعمل نفسه تحطم له سيارته وتجد من يناصرك ويدعمك بدل الواحد مائة؟ أم أن ذلك مكانة أعلى من التدين؟ وبأى أمارة نجد أنفسنا مصدقين لمقولة أن فلان شخص ممتاز ولا غبار عليه لأنه حافظ لكتاب الله ومقيم للصلاة، فإن اعترضت لأن فلانا يتقاضى راتبه دون أن يعمل بنكلة، أو أنه يسرق وينصب فى تجارته، أو أنه لا يشرح الدرس فى الفصل ويكتفى بالدروس الخصوصية، أو أنه بيبصبص للستات ويبدل طقم زوجاته الأربع كلما مل أو سئم، فتجد نفسك فى خانة الاتهام بالبعد عن الدين والميل إلى العلمانية والعياذ بالله وعدم نصرة دينك أستغفر الله.

المهم أنه جارٍ بناء مسجد فى الكومباوند وأقرب المرشحين لإمامة الصلاة فيه هو «الشيخ» محمد الجناينى لأنه ملتح ودراجته النارية متخمة بالآيات القرآنية والتساؤل «هل صليت على النبى (ص) اليوم حتى لم يعد هناك مكان للوحة الأرقام المارقة الفاجرة ذات العقيدة الفاسدة».

ــــــــــــــــــــــــــ

http://www.almasryalyoum.com/news/details/1133574

?s=96&d=mm&r=g مسجد فى الكومباوند

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

You might also likeRELATED
Recommended to you

أمينة خيري – المصري اليوم ـ 

زمان قبل دخول الإسلام مصر، كانت مميزات مثل «ناصية» أو «بحرى» أو «صف أول على البحر» أو «تراه» أو «قريبة منه» أو «غير مجروحة» أو «قريبة من المحطة» أو «أول سكن» نقاط القوة وعوامل جذب المشترى أو المستأجر للشقة السكنية. وقد ظلت هذه المميزات والعوامل تهيمن على أسعار الشقق وأفضليتها إلى أن دخل الإصدار الجديد من الإسلام البلاد، وهو الإصدار نفسه الذى جعل الأستاذ صفوت حجازى يطمئن ويرتاح ويغتبط بظهور المذيعة الأولى المحجبة على شاشة التليفزيون المصرى إبان حكم الجماعة بقوله: «أدركت أن الإسلام دخل مصر»!

وعلى الرغم من الإنكار الفاضح فى مبنى ماسبيرو طيلة سنوات طويلة مضت بأن الغالبية المطلقة من نساء مصر من المسلمات أصبحن يضعن غطاء على الشعر، إلا أن التاريخ وحده سيحكم إن كان الإسلام دخل مصر عبر المذيعة المحجبة، أم ملصقات «لا إله إلا الله محمدا رسول الله» على زجاج السيارات، أم بإلغاء «صباح الخير» وتعميم «السلام عليكم» أم قبل ذلك أم بعده؟!

لكن ما يهم هو أن الكثير من المعايير والمقاييس المتبعة فى الحياة فى مصر تغيرت وتبدلت بعد دخول هذه النسخة تحديداً من الدين أو التدين. ونعود إلى معايير تسويق الشقق وكذلك الفيلات. لم تعد الناصية أو الاتجاه البحرى أو ما شابه من النقاط الجاذبة لكثيرين. وقد أدركت ذلك حين صارحتنى صديقة «محجبة» بأن الشقة التى دفعت وزوجها فيها تحويشة العمر أصبحت مصدراً للقلق وقلة النوم. فالشقة تقع فى مواجهة مسجد ضخم وخلفها مسجد آخر ضخم وعلى أول الشارع مسجد ثالث ضخم، وفى كل أذان تتبارى المساجد الثلاثة الضخمة فى استعراض قوة عشرات الميكرفونات المثبتة فى كل ركن من أركانها، وهو ما يصب فى داخل شقتهما المليونية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كثيراً ما تقام الصلوات نفسها عبر الميكرفونات، بالإضافة بالطبع إلى صلاة التراويح كاملة فى رمضان، وخطب الجمعة التى يتبارى الخطباء فى جذب المسلمين إلى الدين وتحبيبهم فيه عبر الصراخ المستمر والتهديد المتواصل بنار جهنم وعذاب القبر. ومع الاستعانة بالسايس مرة، والبواب مرة، والمكوجى مرة ليؤذنوا للصلاة بأصوات ما أنزل الله بها من سلطان، باعت صديقتى شقة العمر. وهى عملية البيع التى سبقتها محاولات عدة لإقناع القائمين على أمر المساجد بخفض الصوت، أو تقليص عدد الميكروفونات، فتراوحت الردود بين غلظة الاتهام بأن من يطلب مثل هذه الطلبات كاره للدين مرجح لكفة الابتذال والهلس وسماحة الدعاء بالهداية ومراجعة مثل هذه المطالب التى تثير الشك حول درجة الإيمان.

درجات الإيمان التى باتت تصنف اعتماداً على مفردات فى الكلام، ومحددات فى المظهر، وإلغاءات فى العقل، وإغلاقات فى القلب، وانتقاءات فى التفسير، وسمات بعينها دوناً عن غيرها قادرة على نقل الشخص من مؤمن عادة إلى مؤمن بشرطة هى التى باتت تتحكم فى نسبة كبيرة منا. نسبة كبيرة- إن لم تكن الغالبية- من المعلنين عن شقق وفيلات سكنية جديدة يعتبرون «المسجد» ودرجة القرب منه عاملا تسويقيا قويا. حتى فى المنتجعات أو الكومباوندات السكنية التى لا يوجد فيها مسجد (حتى وإن كان هناك مسجد على باب الكومباوند) تجد فئة من السكان تهرع إلى جمع التبرعات، لا لمحو أمية العمال، أو تعليم من يحتاج بديهيات النظافة الشخصية أو قيمة العمل أو حتى تجهيز قاعة للموسيقى أو مكاناً للقراءة، على الرغم من الاحتياج الشديد جداً لهذه النواقص. تجد المساجد محيطة بالمكان، لكن الأولوية تكون لبناء مسجد إضافى.

ومنعاً من محاولات الصيد فى المياه العكرة، أو استنفار قرون استشعار الهجوم ووجوب نعت الآخرين ممن يضعون احتياجات المواطنين الثقافية والترفيهية والاقتصادية والاجتماعية على رأس قائمة الأولويات، فإن الغرض من هذا المقال ليس الهجوم على بناء المساجد، أو معارضة زيادة بيوت الله، أو منع الناس من الصلاة، أو نشر الإلحاد وبث الفسق والفجور، لكن الغرض هو البحث والتنقيب فى الفكرة من بناء مسجد، رغم وجود مسجد على مرمى حجر، ورغم نقص بالغ وشديد وعميق ورهيب فى جوانب الحياة الأخرى. فتدنى الأخلاق وتحلل السلوكيات وتبخر الشهامة وتقلص الأدب وتحول البعض من خانة البشر إلى مصاف الغيلان والوحوش فى أدق تفاصيل حياتها اليومية لن يصلحه بناء المزيد من المساجد، ولن يضبطه الصراخ بنبرة أعلى فى مكبرات الصوت، ولن يرممه بث صلاة التراويح فى داخل غرفة نوم كل مواطن.

سبل الإصلاح متعددة المناهل والمناهج. وسبل الدفاع والهجوم على من يجرؤ بالتساؤل عن الفائدة التى تعود على المواطن بالتأكيد على وجود مسجدين بين كل مسجد ومسجد. من الواضح جداً أن احتياجاتنا الثقافية والفكرية أكثر بديهية وبدائية من «تجديد الخطاب الدينى». نحن فى حاجة ماسة إلى مراجعة ما نحن عليه بوجه عام. ولنا فيما قاله الشيخ سالم عبدالجليل عبرة، وهو الرجل المعروف بتفتحه وتنويره ووسطيته (وإن كانت كلمة وسطية باتت غير معروفة المغزى). ألم يحن الوقت بعد لننظر فى مرآة تكشف لنا ما جرى لنا دون خوف من مشايخ الترهيب، أو قلق مما قد ينعتنا به الأستاذ فلان أو الحاجة علانة؟ هل هو نوع من الجنون أن تكون لوحة الأرقام فى دراجة نارية «صلى على النبى»؟!

أم هو درجة من درجات الإيمان؟ وهل هو ضرب من الجنوح أن تسمح لنفسك بملصق بعرض زجاج السيارة لإشهار ديانتك وإن قام صاحب ديانة أخرى بالعمل نفسه تحطم له سيارته وتجد من يناصرك ويدعمك بدل الواحد مائة؟ أم أن ذلك مكانة أعلى من التدين؟ وبأى أمارة نجد أنفسنا مصدقين لمقولة أن فلان شخص ممتاز ولا غبار عليه لأنه حافظ لكتاب الله ومقيم للصلاة، فإن اعترضت لأن فلانا يتقاضى راتبه دون أن يعمل بنكلة، أو أنه يسرق وينصب فى تجارته، أو أنه لا يشرح الدرس فى الفصل ويكتفى بالدروس الخصوصية، أو أنه بيبصبص للستات ويبدل طقم زوجاته الأربع كلما مل أو سئم، فتجد نفسك فى خانة الاتهام بالبعد عن الدين والميل إلى العلمانية والعياذ بالله وعدم نصرة دينك أستغفر الله.

المهم أنه جارٍ بناء مسجد فى الكومباوند وأقرب المرشحين لإمامة الصلاة فيه هو «الشيخ» محمد الجناينى لأنه ملتح ودراجته النارية متخمة بالآيات القرآنية والتساؤل «هل صليت على النبى (ص) اليوم حتى لم يعد هناك مكان للوحة الأرقام المارقة الفاجرة ذات العقيدة الفاسدة».

ــــــــــــــــــــــــــ

http://www.almasryalyoum.com/news/details/1133574