أحمد عبد المعطي حجازي ـ الأهرام ـ
يجب أن نراجع أنفسنا لنعرف ما نحن فيه على حقيقة وننقذ أنفسنا قبل فوات الأوان.
نعم. آن الأوان لأن نتحلى بما يكفى من الشجاعة والصراحة والمعرفة والجدية والحزم لنعرف أننا نواجه أخطارا مدمرة لا تقف عند حد، بل تتجاوز كل الحدود وتهدد وجودنا كله المادى والمعنوى فى الحاضر والمستقبل، وفى بلادنا وخارج بلادنا.
نحن نضلل أنفسنا حين نحصر ما نواجهه ونختزله فى هذه الجرائم التى ننسبها لمن يرتكبونها بأيديهم ونعتبرهم مسئولين وحدهم عنها ونتجاهل الدوافع والأسباب القريبة والبعيدة والخيوط الظاهرة والخفية التى تمتد بين الإرهابى المنفذوالإرهابى المفكر والإرهابى المخطط والإرهابى الممول، بين الفعل وما يسبقه ويصاحبه ويعقبه من صور وأصوات وإيحاءات تستدعيه وتبرره وتشجعه. وأنا هنا أتحدث فى صميم الموضوع. فالارهاب ليس مجرد طلقات تصوب وقنابل تنفجر، وإنما هو أيضا مسرح، روايات وأزياء تفرض على النساء والرجال والأطفال، ديكورات وكتابات، وأسماء مستعارة، وصحف، وكتب، وقنوات فضائية وبرامج دراسية، وأشرطة، وميكروفونا.. نحن نتجاهل هذا كله، نتجاهل الأوساط الاجتماعية التى نشأ فيها هؤلاء والتربية التى يتلقونها فتطلق فيهم ما تطلقه وتحبس فيهم ما تحبسه.
الشيخ الأزهرى والزعيم الاخوانى الذى ابتعد عن جماعته حين اصطدمت بعبد الناصر ووقف إلى جانب النظام الناصرى الذى احتضنه وسمح له بالتعبير عن آرائه بشرط الابتعاد عن السياسة، فلم يجد أمامه هدفا متاحا وميدانا مباحا إلا الثقافة والمثقفين الذى سلط عليهم غضبه وأمطرهم بوابل من سهامه المسمومة فهاجم نجيب محفوظ حين نشر روايته «أولاد حارتنا» فصولا فى «الأهرام». وبهذا الهجوم أهدر دمه، وهاجم فرج فوده بعنف شديد فى المناظرة التى دارت بينهما فى معرض الكتاب. وبعد اغتيال فرج فوده استدعته المحكمة التى نظرت القضية للإدلاء بشهادته فيها فأعلن على الملأ أن فرج فودة مرتد والمرتد عقوبته القتل. والخطأ الوحيد الذى وقع فيه الجناة أنهم نفذوا العقوبة التى كان يجب على الدولة أن تنفذها. كأنه أراد أن يقول إن الدولة لم تقم الحد على فرج فودة، فعلينا أن نلومها لأنها لا تطبق الشريعة، وأن نشكر هؤلاء القتلة لأنهم طبقوها، ولأنهم رأوا المنكر فغيروه بأيديهم وأقاموا الحد على المرتد!
فى هذه القضية أين كان على هذا الشيخ أن يقف وأن يوقفه القضاة؟ فى مكان الشاهد أم فى مكان المتهم؟ فى القاعة أم خلف القفص؟
لكننا مع هذا نستطيع أن نجد له عذرا. لأن آراء هذه وشهاداته ليست اجتهادا خاصا، ولم يدفع ثمنها فرج فودة أو نجيب محفوظ وحدهما، وإنما هى الثقافة التى تربى عليها الكثيرون ودفع ثمنها الكثيرون ولايزالون يدفعونه حتى الآن.
وقبل أيام قليلة ظهر شيخ آخر على شاشة التليفزيون ليعلن أن المسيحيين كفار، وحين آخذه بعضهم أعلن استعداده لمناظرتهم، وأكد أن ما يقوله هو ما يقوله الذين آخذوه. وفى اليوم التالى أو بعده بيوم سقط العشرات من المسيحيين قتلى وجرحى وهم فى طريقهم إلى أحد الأديرة ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سوف يحدث غدا، لكن الخطر ماثل دائما، والأهداف معروفة محددة. المثقفون. والمسيحيون والجنود والضباط المصريون. والسوريون والعراقيون. والفرنسيون والانجليز.
هذا الموت المدبر المنظم المزود بالنصوص المقدسة والفتاوى الموثقة والوعد بدخول الجنة ـ هذا الموت الأخطبوطى المدجج بأسلحة الماضى والحاضر هل هو مجرد حوادث متفرقة يقوم بها أفراد منحرفون؟
نضحك على أنفسنا إذا صدقنا هذا الكلام الساذج الذى يردده بعضهم كلما وقعت حادثة من هذه الحوادث الاجرامية كأن الذين يرددونه يريدون أن ينفوا التهمة عن أنفسهم فلا نملك إلا أن نقول لهم: يكاد المريب يقول خذوني!
لا. ليست هذه حوادث فردية، وإنما هى حرب معلنة علينا وعلى العالم كله كما نرى فى أهدافها وضحاياها. المثقفون، لأنهم يؤمنون بثقافة العصر وقيمه وحضارته. والمسيحيون لأنهم لم يعودوا ذميين كما كانوا فى عصور الظلام، وإنما هم جزء لا يتجزأ من الأمة المصرية ولا ينفصل عنها، جزء أصيل حى فاعل يتمتع بكل ما يتمتع به غيرهم من المواطنين ويشارك فى النشاط الوطنى بكل صوره وفى كل ميادينه. والجنود والضباط الذين يرمزون للدولة الوطنية التى استعدنا بها استقلالنا، وانفصلنا عن الدول الدينية التى استعبدتنا فى العصور الوسطي، وسقطت فى العصور الحديثة ولم يعد لها وجود. وأوروبا الغربية التى لم تعد دار حرب، كما تسمى فى كتب الفقه بعد أن أصبح العالم كله غربه وشرقه عالما واحدا أو قرية كونية تحكمها القوانين والنظم التى اتفقت عليها كل شعوب الأرض. فإذا نظرنا لهذه الأهداف التى تتعرض كل يوم للغارات، وعرفنا ما ترمز له وما تمثله فى حياتنا عرفنا أن الخطر الذى نواجهه ليس شيئا آخر إلا ما يتناقض مع هذه الأهداف من أفكار ونظم تتبناها الجماعات والمنظمات التى تشن علينا الحرب لتقوض كل ما بنيناه فى القرنين الأخيرين وتعيدنا إلى عصور الخرافة والمجاعة والظلام والعبودية.
باختصار شديد، الخطر الداهم الذى نواجهه ويواجهه معنا العالم كله ثقافة راسخة موروثة اعتبرت صحوة خرجنا بها من جاهلية القرن العشرين لندخل بها فى إسلام ابن تيمية، وابن عبدالوهاب، وسيد قطب، والمودودي، وحسن البنا حتى نصل إلى إسلام بن لادن، والظواهري، والبغدادي. وعلينا أن نعترف بأن هذه الثقافة هى السائدة حتى الآن، لأنها تملك الكثير الذى يضمن لها أن تسود وتنتشر: تقديس الماضي. والأمية، والقوى الداخلية والخارجية والمصالح والأموال التى تقف وراء هذه الثقافة التى نواجهها بعد أن فقدنا ثقافة النهضة فى العقود الستة الأخيرة التى خضعنا فيها لحكم الطغاة. فإذا أردنا أن ننتصر فى هذه المعركة فالسلاح هو ثقافة النهضة وهو الديمقراطية وحقوق الانسان.
_____________________
http://www.ahram.org.eg/News/202288/4/597976/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%AF%D8%AB%D8%8C-%D8%A8%D9%84-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9.aspx