in Arabic قرار جامعة القاهرة.. والبرلمان الهزلى

قرار جامعة القاهرة.. والبرلمان الهزلى

-

  محمد سلماوي ـ الأهرام ـ

من غرائب ذلك السيرك المنصوب داخل البرلمان أن محاولات تطبيق الدستور، والتى من المفترض أن تكون المهمة الأولى للبرلمان، لا تأتى إلا من خارجه، فها هى الدورة الثانية لانعقاده قد بدأت وهو لايزال غافلا تماما عن مهمته التاريخية التى انتخب من أجلها، وقد سبق رئيس جامعة القاهرة ا. د. جابر جاد نصار، جميع أعضاء ذلك البرلمان بتطبيق مادة أساسية فى الدستور، قبل أن يصدروا القانون المطبق لها، وهى تلك التى تنص على عدم جواز التفرقة بين المواطنين على أساس من الدين، فأصدر قراره بإلغاء خانة الديانة من أوراق الجامعة التى كانت تقسم الطلاب الى مسلمين ومسيحيين. لم ينتظر رئيس جامعة القاهرة – وهو أحد واضعى مواد الدستور – أن يفيق البرلمان من غفلته ويبدأ فى إنجاز مهمته التاريخية بإصدار التشريعات المكملة للدستور، وانما بادر باستخدام سلطته القانونية فى اتخاذ هذا القرار الذى يعتبر أول محاولة لتطبيق الدستور على هذا المستوي، وقد قامت مشكورة نقابة المهندسين برئاسة المهندس طارق النبراوى بإصدار قرار مماثل فكانت أول نقابة فى مصر تطبق هذا المبدأ الدستوري.

إن المادة (53) من الدستور تنص على أن:

المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسى أو الجغرافي، أو لأى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.

ويحضرنى فى ذلك الواقعة الشهيرة التى رواها أديبنا الأكبر نجيب محفوظ حين جاءته منحة للدراسة بالخارج لكن إدارة الجامعة منعتها عنه لأن اسمه أوحى لها بأنه مسيحي، ولم تكن هذه الواقعة الوحيدة من نوعها وانما كانت كاشفة عن اتجاه سائد فى المجتمع، ولابد أن هذه الوقائع كانت ماثلة أمام الدكتور جابر جاد نصار وهو يصدر قراره التاريخى الذى أتمنى ألا يتم التراجع عنه أو تجاهله بعد انتهاء فترة رئاسته للجامعة فى العام المقبل. لقد حرص الدستور فى نفس المادة على النص على إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز، كان من المفترض أن يصدر البرلمان القانون المنشئ لها لكنه لم يفعل وكأنه لا يريد وضع حد للتمييز بين المواطنين، بل لا يريد تطبيق الدستور، وحين تقدمت النائبة أنيسة حسونة بمشروع قرار فى هذا الشأن تم إرجاء مناقشته رغم أنه من القوانين المكملة للدستور والتى ألزم الدستور البرلمان بإصدارها، واذا كان النص الدستورى يقول إن التفرقة بين المواطنين، والحض على الكراهية، يعاقب عليه القانون، فإن مثل هذه الاعمال لن تقابل بأى عقاب ما لم يصدر القانون التى ستعاقب بمقتضاه. بل إن الدستور لم يكتف بالمادة (53) فى تأكيده المساواة بين المواطنين وتجريم التمييز بينهم، وإنما نص فى مادته الثانية على ضرورة وضع سياسات وبرامج تكفل المساواة وتمنع التمييز بين المواطنين.

وقد تضمن مشروع القرار الذى تقدمت به النائبة أنيسة حسونة الاختصاصات التى تستطيع من خلالها المفوضية تحقيق أهدافها فى مكافحة كل أشكال التمييز، واقترح أن يكون عدد أعضاء المفوضية مساويا لعدد محافظات الجمهورية وجعل على رأس كل فرع لها بالمحافظات عضوا من أعضاء المفوضية، وأكد استقلالية أعضاء المفوضية فى أثناء مباشرة أعمالهم، وحظر عليهم ما يحظر على الوزراء فى شأن تعارض المصالح، وأوضح أن للمفوضية موازنة مستقلة وذكر موارد هذه الموازنة.

وقد وصلتنى فى هذا الصدد رسالة مهمة من القاضى الدولى الدكتور فؤاد رياض جاء بها: «مما يؤسف له أن كافة مؤسسات الدولة لم تتنبه (وربما لم تجرؤ) حتى الآن على حذف خانة الديانة من كافة الأوراق الرسمية رغم ما تقضى به نصوص الدساتير المصرية المتعاقبة والمواثيق الدولية الملزمة لمصر التى نصت جميعها على عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس، ورغم ما ثبت من معاناة أفراد الشعب المصرى من التمييز الفعلى إن لم يكن الرسمى فى العديد من مرافق الدولة التى أعملت التمييز الذى قامت به المؤسسات المختلفة كجواز سفر يحدد هوية كل مصرى وأسلوب معاملته. ويحضرنى فى هذا المقام ما قمت به خلال رئاستى للجمعية المصرية للقانون الدولى فى تسعينيات القرن الماضى من محاولة حذف خانة الديانة من بطاقات الجمعية، وما قابل ذلك من رفض رسمي، ولعل ذلك كان بسبب ما تمتع به الإخوان المسلمون فى هذا الوقت من سلطة فعلية وهى سلطة كانت ترفض الاعتداد بمصر كدولة موحدة كما اتضح فيما بعد، ولا مجال بلا شك الآن لمواصلة نفس الأسلوب الداعى للفرقة غير الدستورية.

وقد انتهزت فرصة صدور القرار الحكيم لرئيس جامعة القاهرة بحذف خانة الديانة ومنع التمييز بين الطلاب لدق ناقوس الخطر الذى يهدد كيان مصر والناجم عن المسار غير المسئول الذى يغذى التمييز فى مختلف نواحى الحياة بين المواطنين. وقد دعانى لذلك مشاهداتى الشخصية وتجربتى العملية كقاض سابق فى المحكمة الدولية لجرائم الحرب، حيث شاهدت عن قرب تفكك دولة كبرى مثل يوغوسلافيا إلى ثلاث دويلات، وذلك نتيجة للدعوة إلى الكراهية والعداء بين الفئات الدينية واضطهاد الفئة الدينية الأقوى للفئة الدينية الأضعف. كما دعانى إلى ذلك ما لمسته عن قرب خلال قيامى بمهمة التحقيق فى كل أنحاء مصر خلال رئاستى للجنة تقصى الحقائق، ومن قبلها كعضو للمجلس القومى لحقوق الإنسان، من نمو للكراهية ودعوة للعنف من الأغلبية المسلمة ضد الأقلية المسيحية التى جعلت التعايش المشترك صعبا، بل قد تجعله مستحيلا، وقد حان الوقت إن لم يكن قد فات لاتخاذ الدولة الموقف الحاسم واللازم لوضع حد للتفرقة الصادمة والمهينة التى أصبحت جزءا من حياة المجتمع المصرى والتى تغذيها الدعوة الجاهلة إلى التعصب الدينى الواجب القضاء عليه بمختلف الوسائل المادية والمعنوية سواء من جانب الدولة أو من جانب المواطنين الواعين. وفى نفس الوقت أصدرت مؤسسة حماية الدستور بيانا مهما تؤيد فيه قرار جامعة القاهرة ونقابة المهندسين، وتدعو بقية الهيئات الى اقتفاء أثرهما، فأين البرلمان من كل ذلك؟

ان تلك الخطوات ما هى الا صفعات على وجه البرلمان، فهل يعقلون؟ هل يدركون؟ هل يشعرون؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

http://www.ahram.org.eg/News/192062/4/557260/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B2%D9%84%D9%89.aspx

?s=96&d=mm&r=g قرار جامعة القاهرة.. والبرلمان الهزلى

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

You might also likeRELATED
Recommended to you

  محمد سلماوي ـ الأهرام ـ

من غرائب ذلك السيرك المنصوب داخل البرلمان أن محاولات تطبيق الدستور، والتى من المفترض أن تكون المهمة الأولى للبرلمان، لا تأتى إلا من خارجه، فها هى الدورة الثانية لانعقاده قد بدأت وهو لايزال غافلا تماما عن مهمته التاريخية التى انتخب من أجلها، وقد سبق رئيس جامعة القاهرة ا. د. جابر جاد نصار، جميع أعضاء ذلك البرلمان بتطبيق مادة أساسية فى الدستور، قبل أن يصدروا القانون المطبق لها، وهى تلك التى تنص على عدم جواز التفرقة بين المواطنين على أساس من الدين، فأصدر قراره بإلغاء خانة الديانة من أوراق الجامعة التى كانت تقسم الطلاب الى مسلمين ومسيحيين. لم ينتظر رئيس جامعة القاهرة – وهو أحد واضعى مواد الدستور – أن يفيق البرلمان من غفلته ويبدأ فى إنجاز مهمته التاريخية بإصدار التشريعات المكملة للدستور، وانما بادر باستخدام سلطته القانونية فى اتخاذ هذا القرار الذى يعتبر أول محاولة لتطبيق الدستور على هذا المستوي، وقد قامت مشكورة نقابة المهندسين برئاسة المهندس طارق النبراوى بإصدار قرار مماثل فكانت أول نقابة فى مصر تطبق هذا المبدأ الدستوري.

إن المادة (53) من الدستور تنص على أن:

المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسى أو الجغرافي، أو لأى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.

ويحضرنى فى ذلك الواقعة الشهيرة التى رواها أديبنا الأكبر نجيب محفوظ حين جاءته منحة للدراسة بالخارج لكن إدارة الجامعة منعتها عنه لأن اسمه أوحى لها بأنه مسيحي، ولم تكن هذه الواقعة الوحيدة من نوعها وانما كانت كاشفة عن اتجاه سائد فى المجتمع، ولابد أن هذه الوقائع كانت ماثلة أمام الدكتور جابر جاد نصار وهو يصدر قراره التاريخى الذى أتمنى ألا يتم التراجع عنه أو تجاهله بعد انتهاء فترة رئاسته للجامعة فى العام المقبل. لقد حرص الدستور فى نفس المادة على النص على إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز، كان من المفترض أن يصدر البرلمان القانون المنشئ لها لكنه لم يفعل وكأنه لا يريد وضع حد للتمييز بين المواطنين، بل لا يريد تطبيق الدستور، وحين تقدمت النائبة أنيسة حسونة بمشروع قرار فى هذا الشأن تم إرجاء مناقشته رغم أنه من القوانين المكملة للدستور والتى ألزم الدستور البرلمان بإصدارها، واذا كان النص الدستورى يقول إن التفرقة بين المواطنين، والحض على الكراهية، يعاقب عليه القانون، فإن مثل هذه الاعمال لن تقابل بأى عقاب ما لم يصدر القانون التى ستعاقب بمقتضاه. بل إن الدستور لم يكتف بالمادة (53) فى تأكيده المساواة بين المواطنين وتجريم التمييز بينهم، وإنما نص فى مادته الثانية على ضرورة وضع سياسات وبرامج تكفل المساواة وتمنع التمييز بين المواطنين.

وقد تضمن مشروع القرار الذى تقدمت به النائبة أنيسة حسونة الاختصاصات التى تستطيع من خلالها المفوضية تحقيق أهدافها فى مكافحة كل أشكال التمييز، واقترح أن يكون عدد أعضاء المفوضية مساويا لعدد محافظات الجمهورية وجعل على رأس كل فرع لها بالمحافظات عضوا من أعضاء المفوضية، وأكد استقلالية أعضاء المفوضية فى أثناء مباشرة أعمالهم، وحظر عليهم ما يحظر على الوزراء فى شأن تعارض المصالح، وأوضح أن للمفوضية موازنة مستقلة وذكر موارد هذه الموازنة.

وقد وصلتنى فى هذا الصدد رسالة مهمة من القاضى الدولى الدكتور فؤاد رياض جاء بها: «مما يؤسف له أن كافة مؤسسات الدولة لم تتنبه (وربما لم تجرؤ) حتى الآن على حذف خانة الديانة من كافة الأوراق الرسمية رغم ما تقضى به نصوص الدساتير المصرية المتعاقبة والمواثيق الدولية الملزمة لمصر التى نصت جميعها على عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس، ورغم ما ثبت من معاناة أفراد الشعب المصرى من التمييز الفعلى إن لم يكن الرسمى فى العديد من مرافق الدولة التى أعملت التمييز الذى قامت به المؤسسات المختلفة كجواز سفر يحدد هوية كل مصرى وأسلوب معاملته. ويحضرنى فى هذا المقام ما قمت به خلال رئاستى للجمعية المصرية للقانون الدولى فى تسعينيات القرن الماضى من محاولة حذف خانة الديانة من بطاقات الجمعية، وما قابل ذلك من رفض رسمي، ولعل ذلك كان بسبب ما تمتع به الإخوان المسلمون فى هذا الوقت من سلطة فعلية وهى سلطة كانت ترفض الاعتداد بمصر كدولة موحدة كما اتضح فيما بعد، ولا مجال بلا شك الآن لمواصلة نفس الأسلوب الداعى للفرقة غير الدستورية.

وقد انتهزت فرصة صدور القرار الحكيم لرئيس جامعة القاهرة بحذف خانة الديانة ومنع التمييز بين الطلاب لدق ناقوس الخطر الذى يهدد كيان مصر والناجم عن المسار غير المسئول الذى يغذى التمييز فى مختلف نواحى الحياة بين المواطنين. وقد دعانى لذلك مشاهداتى الشخصية وتجربتى العملية كقاض سابق فى المحكمة الدولية لجرائم الحرب، حيث شاهدت عن قرب تفكك دولة كبرى مثل يوغوسلافيا إلى ثلاث دويلات، وذلك نتيجة للدعوة إلى الكراهية والعداء بين الفئات الدينية واضطهاد الفئة الدينية الأقوى للفئة الدينية الأضعف. كما دعانى إلى ذلك ما لمسته عن قرب خلال قيامى بمهمة التحقيق فى كل أنحاء مصر خلال رئاستى للجنة تقصى الحقائق، ومن قبلها كعضو للمجلس القومى لحقوق الإنسان، من نمو للكراهية ودعوة للعنف من الأغلبية المسلمة ضد الأقلية المسيحية التى جعلت التعايش المشترك صعبا، بل قد تجعله مستحيلا، وقد حان الوقت إن لم يكن قد فات لاتخاذ الدولة الموقف الحاسم واللازم لوضع حد للتفرقة الصادمة والمهينة التى أصبحت جزءا من حياة المجتمع المصرى والتى تغذيها الدعوة الجاهلة إلى التعصب الدينى الواجب القضاء عليه بمختلف الوسائل المادية والمعنوية سواء من جانب الدولة أو من جانب المواطنين الواعين. وفى نفس الوقت أصدرت مؤسسة حماية الدستور بيانا مهما تؤيد فيه قرار جامعة القاهرة ونقابة المهندسين، وتدعو بقية الهيئات الى اقتفاء أثرهما، فأين البرلمان من كل ذلك؟

ان تلك الخطوات ما هى الا صفعات على وجه البرلمان، فهل يعقلون؟ هل يدركون؟ هل يشعرون؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

http://www.ahram.org.eg/News/192062/4/557260/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B2%D9%84%D9%89.aspx