in Arabic شرق أوسط بلا مسيحيين

شرق أوسط بلا مسيحيين

-

د. جمال عبد الجواد ـ الأهرام ـ

يشير الاعتداء الذى تعرض له المسيحيون من زوار دير الأنبا صموائيل فى المنيا إلى أن العقل الإجرامى الذى يسكن فى أدمغة هؤلاء المتعصبين لا يعرف للشر حدودا. قتل الأطفال والنساء على يد إرهابيين مجرمين يبين أن فى نفوس هؤلاء طاقة كراهية أكبر بكثير مما نتصور، وأن الكراهية التى تملأ نفوس الإرهابيين تجعلهم مستعدين للذهاب فى الوحشية إلى آفاق أبعد بكثير مما تستطيع عقول الأسوياء تخيله.

المسيحيون مستهدفون من جانب الإرهابيين لأسباب كثيرة. لقد شارك المسيحيون ـ مثلهم مثل غيرهم من المصريين – فى ثورة الثلاثين من يونيو التى أنهت حكم المتطرفين وجماعات الإرهاب، وهو ما لن ينساه المتطرفون أو يغفرونه.

شارك المسيحيون فى الثلاثين من يونيو كمواطنين لهم حق المشاركة فى صنع مصير الوطن، وهذا بالضبط ما لا يفهمه المتطرفون وما يرفضونه، فغير المسلمين – فى عرف المتطرفين – ليسوا مواطنين لهم حقوق كاملة، ولكن ذميون يدفعون الجزية صاغرين، وإلا كان القتل والإخراج جزاءهم.
ما يحدث ضد المسيحيين اليوم ليس سوى معركة جديدة فى نفس الحرب التى كانت الثلاثين من يونيو واحدة من معاركها المبكرة، وما تفجير الكنائس وإطلاق الرصاص على الأبرياء سوى امتداد للاعتداءات التى تعرضت لها كنائس مصر فى صيف عام 2013 الساخن، عندما نجح المصريون، مسلمين ومسيحيين، فى هزيمة التطرف.
لقد اختار المسيحيون المصريون فى الثلاثين من يونيو طواعية الانحياز لمعسكر النهوض الوطنى رغم التكلفة والمخاطر، وما يواجهه المسيحيون المصريون اليوم هو استكمال للطريق الذى اختاروه عندما رفضوا أن يكونوا رعية من الذميين، وتمسكوا بحقهم فى المواطنة والمساواة الكاملة.
الإرهاب يستهدف المسيحيين ليس لأنهم هدف سهل لا يحظى بحماية كافية، ولكن لأن المسيحيين المصريين أصبحوا رمزا لكل القيم التى يدافع عنها مشروع النهضة الوطنية. ففيما نحلم بوطن تثريه التعددية، وتتنوع فيه القيم والثقافات، ويتسع لكل أبنائه ويساوى بينهم، يسعى الإرهابيون لبناء مجتمع مسخ، بلا تعدد ولا ألوان، تماما مثل الراية السوداء التى اتخذوها شعارا لهم، ومثل الملابس المتشابهة التى اختاروها لأنفسهم ويريدون فرضها علينا.
الإرهاب يستهدف المسيحيين فى مصر لأن المسيحيين المصريين – من بين كل الطوائف المسيحية فى المنطقة – يقاومون بصلابة مخطط تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين الذى تتبناه جماعات التطرف الأصولى على تنوعها وخلافاتها. فتمسك المسيحيين فى مصر بوطنهم ووطنيتهم يدفع المتطرفين للجنون، ولارتكاب المزيد من الفظائع.
لقد نجحت موجة التطرف التى ضربت المنطقة من حولنا فى العقود الأخيرة فى تهجير قسم كبير من مسيحيى الشرق، ففيما كان المسيحيون يمثلون نحو خمس السكان فى بلاد الشام والعراق قبل مائة عام، انخفضت نسبتهم الآن لتصل إلى أقل من خمسة بالمائة من مجموع السكان. لقد دفع مسيحيو الشرق تكلفة باهظة للتقلبات السياسية فى المنطقة، بدءا من إخفاقات الدولة الوطنية، مرورا بحروب التدخل الأمريكية، وصولا إلى الإرهاب الأصولي، ممثلا فى تنظيم داعش، الذى وجه أكثر الضربات قسوة للوجود المسيحى فى المشرق.

لقد انخفضت نسبة المسيحيين بين سكان لبنان من أكثر من خمسين بالمائة إلى نحو خمسة وثلاثين بالمائة فى نهاية سنوات الحرب الأهلية الخمس عشرة. وفى بيت لحم حيث ولد السيد المسيح، تراجعت نسبة المسيحيين من نحو 85 بالمائة من عدد السكان عند صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، لتصل نسبتهم الآن إلى ما لا يتجاوز ربع السكان.

وفى سوريا اضطر واحد من بين كل أربعة مسيحيين لمغادرة البلاد منذ اندلاع الحرب الأهلية الراهنة. وعندما دخل الأمريكيون العراق عام 2003 كان فيه مليون وأربعمائة ألف من المسيحيين، لم يبق منهم الآن سوى ما يناهز ربع المليون. ويعد ما حدث لمسيحيى مدينة الموصل نموذجا لما يخطط له الأصوليون الإرهابيون بحق المسيحيين. فالموصل التى كانت لقرون طويلة موطنا لعدد من أكبر وأقدم الطوائف المسيحية فى الشرق، قد خلت تماما من سكانها المسيحيين بعد أن خيرهم داعش، الذى سيطر على المدينة فى صيف عام 2014، بين الرحيل أو القتل.
تغييب المسيحيين أفقد بلاد المشرق العربى مناعتها ضد الأصولية والتطرف، فظهر حزب الله الشيعي، وتكونت داعش السنية، وسيطر المتطرفون على المؤسسات والأرض والبشر، وكادوا يؤسسون دولا، وهو نفس المخطط الذى يحاول الأصوليون الإرهابيون تنفيذه فى مصر. فإخلاء مصر من أبنائها المسيحيين هو الهدف الأهم لجماعات الإرهاب على اختلافهم، لأن تغييب المسيحيين يقوض قدرة المجتمع على مقاومة التطرف والإرهاب كما حدث فى بلاد المشرق، وبالتالى فإن حماية الوجود المسيحى فى مصر ليس منة أو تفضلا أو واجبا نقوم به مضطرين، ولكنه أكبر اختبار لقدرتنا على حماية نموذجنا فى الهوية الوطنية والتعايش.
لقد نجحت مصر فى إفشال مخططات الإرهابيين وتجنب المصير الذى آلت إليه بلاد أخرى فى الشرق العربى بفضل صمود الأقباط، وتمسكهم بمصر وهويتها الوطنية التى أسهموا فى صنعها. لقد نجحت مصر فى ذلك أيضا بفضل الدور الذى تقوم به مؤسسات الدولة الوطنية، خاصة الجيش؛ وبفضل التقاليد الثقافية والأعراف الاجتماعية التى تقاوم الانعزال والتقوقع خلف الهويات الطائفية. هذه هى المرتكزات التى تقوم عليها الهوية الوطنية المصرية المناوئة للتطرف والإرهاب، وهذه هى الأصول التى يجب علينا صيانتها وتعزيزها، وإصلاح ما قد يلحق بها أحيانا من مظاهر الخلل.
حماية النموذج المصرى للهوية الوطنية والتعايش لا يتعلق فقط بتوفير الأمن الضرورى ضد الهجمات التى تستهدف أرواح أبرياء من المسيحيين، ولكنه يتعلق أساسا بمقاومة كل ما يمس الهوية الوطنية المصري، والدور الوطنى غير الطائفى لمؤسسات الدولة، وكل ما يبدل التقاليد والأعراف الاجتماعية المقاومة للانعزال الطائفي. هجمات الإرهاب الأخيرة تؤكد أنه مازال من المبكر جدا الاحتفال بالانتصار على الإرهاب، فتنظيمات الإرهابيين مازالت قائمة، ومازالت هناك نفوس مريضة وعقول مخدوعة مستعدة للوقوع فى حبائل الدعايات المتطرفة.
أما الانتصار الكامل على التطرف والإرهاب فلن يتحقق فى ميادين القتال، ولكنه سيتحقق يوم نفوز بحرب العقول والقلوب، وهى حرب تدور معاركها فى فصول المدارس، ودور العبادة، ووسائل الإعلام، ودواوين الحكومة. فهل نحن جاهزون؟

==========

http://www.ahram.org.eg/News/202282/4/596943/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%8A%D9%86.aspx

?s=96&d=mm&r=g شرق أوسط بلا مسيحيين

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

You might also likeRELATED
Recommended to you

د. جمال عبد الجواد ـ الأهرام ـ

يشير الاعتداء الذى تعرض له المسيحيون من زوار دير الأنبا صموائيل فى المنيا إلى أن العقل الإجرامى الذى يسكن فى أدمغة هؤلاء المتعصبين لا يعرف للشر حدودا. قتل الأطفال والنساء على يد إرهابيين مجرمين يبين أن فى نفوس هؤلاء طاقة كراهية أكبر بكثير مما نتصور، وأن الكراهية التى تملأ نفوس الإرهابيين تجعلهم مستعدين للذهاب فى الوحشية إلى آفاق أبعد بكثير مما تستطيع عقول الأسوياء تخيله.

المسيحيون مستهدفون من جانب الإرهابيين لأسباب كثيرة. لقد شارك المسيحيون ـ مثلهم مثل غيرهم من المصريين – فى ثورة الثلاثين من يونيو التى أنهت حكم المتطرفين وجماعات الإرهاب، وهو ما لن ينساه المتطرفون أو يغفرونه.

شارك المسيحيون فى الثلاثين من يونيو كمواطنين لهم حق المشاركة فى صنع مصير الوطن، وهذا بالضبط ما لا يفهمه المتطرفون وما يرفضونه، فغير المسلمين – فى عرف المتطرفين – ليسوا مواطنين لهم حقوق كاملة، ولكن ذميون يدفعون الجزية صاغرين، وإلا كان القتل والإخراج جزاءهم.
ما يحدث ضد المسيحيين اليوم ليس سوى معركة جديدة فى نفس الحرب التى كانت الثلاثين من يونيو واحدة من معاركها المبكرة، وما تفجير الكنائس وإطلاق الرصاص على الأبرياء سوى امتداد للاعتداءات التى تعرضت لها كنائس مصر فى صيف عام 2013 الساخن، عندما نجح المصريون، مسلمين ومسيحيين، فى هزيمة التطرف.
لقد اختار المسيحيون المصريون فى الثلاثين من يونيو طواعية الانحياز لمعسكر النهوض الوطنى رغم التكلفة والمخاطر، وما يواجهه المسيحيون المصريون اليوم هو استكمال للطريق الذى اختاروه عندما رفضوا أن يكونوا رعية من الذميين، وتمسكوا بحقهم فى المواطنة والمساواة الكاملة.
الإرهاب يستهدف المسيحيين ليس لأنهم هدف سهل لا يحظى بحماية كافية، ولكن لأن المسيحيين المصريين أصبحوا رمزا لكل القيم التى يدافع عنها مشروع النهضة الوطنية. ففيما نحلم بوطن تثريه التعددية، وتتنوع فيه القيم والثقافات، ويتسع لكل أبنائه ويساوى بينهم، يسعى الإرهابيون لبناء مجتمع مسخ، بلا تعدد ولا ألوان، تماما مثل الراية السوداء التى اتخذوها شعارا لهم، ومثل الملابس المتشابهة التى اختاروها لأنفسهم ويريدون فرضها علينا.
الإرهاب يستهدف المسيحيين فى مصر لأن المسيحيين المصريين – من بين كل الطوائف المسيحية فى المنطقة – يقاومون بصلابة مخطط تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين الذى تتبناه جماعات التطرف الأصولى على تنوعها وخلافاتها. فتمسك المسيحيين فى مصر بوطنهم ووطنيتهم يدفع المتطرفين للجنون، ولارتكاب المزيد من الفظائع.
لقد نجحت موجة التطرف التى ضربت المنطقة من حولنا فى العقود الأخيرة فى تهجير قسم كبير من مسيحيى الشرق، ففيما كان المسيحيون يمثلون نحو خمس السكان فى بلاد الشام والعراق قبل مائة عام، انخفضت نسبتهم الآن لتصل إلى أقل من خمسة بالمائة من مجموع السكان. لقد دفع مسيحيو الشرق تكلفة باهظة للتقلبات السياسية فى المنطقة، بدءا من إخفاقات الدولة الوطنية، مرورا بحروب التدخل الأمريكية، وصولا إلى الإرهاب الأصولي، ممثلا فى تنظيم داعش، الذى وجه أكثر الضربات قسوة للوجود المسيحى فى المشرق.

لقد انخفضت نسبة المسيحيين بين سكان لبنان من أكثر من خمسين بالمائة إلى نحو خمسة وثلاثين بالمائة فى نهاية سنوات الحرب الأهلية الخمس عشرة. وفى بيت لحم حيث ولد السيد المسيح، تراجعت نسبة المسيحيين من نحو 85 بالمائة من عدد السكان عند صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، لتصل نسبتهم الآن إلى ما لا يتجاوز ربع السكان.

وفى سوريا اضطر واحد من بين كل أربعة مسيحيين لمغادرة البلاد منذ اندلاع الحرب الأهلية الراهنة. وعندما دخل الأمريكيون العراق عام 2003 كان فيه مليون وأربعمائة ألف من المسيحيين، لم يبق منهم الآن سوى ما يناهز ربع المليون. ويعد ما حدث لمسيحيى مدينة الموصل نموذجا لما يخطط له الأصوليون الإرهابيون بحق المسيحيين. فالموصل التى كانت لقرون طويلة موطنا لعدد من أكبر وأقدم الطوائف المسيحية فى الشرق، قد خلت تماما من سكانها المسيحيين بعد أن خيرهم داعش، الذى سيطر على المدينة فى صيف عام 2014، بين الرحيل أو القتل.
تغييب المسيحيين أفقد بلاد المشرق العربى مناعتها ضد الأصولية والتطرف، فظهر حزب الله الشيعي، وتكونت داعش السنية، وسيطر المتطرفون على المؤسسات والأرض والبشر، وكادوا يؤسسون دولا، وهو نفس المخطط الذى يحاول الأصوليون الإرهابيون تنفيذه فى مصر. فإخلاء مصر من أبنائها المسيحيين هو الهدف الأهم لجماعات الإرهاب على اختلافهم، لأن تغييب المسيحيين يقوض قدرة المجتمع على مقاومة التطرف والإرهاب كما حدث فى بلاد المشرق، وبالتالى فإن حماية الوجود المسيحى فى مصر ليس منة أو تفضلا أو واجبا نقوم به مضطرين، ولكنه أكبر اختبار لقدرتنا على حماية نموذجنا فى الهوية الوطنية والتعايش.
لقد نجحت مصر فى إفشال مخططات الإرهابيين وتجنب المصير الذى آلت إليه بلاد أخرى فى الشرق العربى بفضل صمود الأقباط، وتمسكهم بمصر وهويتها الوطنية التى أسهموا فى صنعها. لقد نجحت مصر فى ذلك أيضا بفضل الدور الذى تقوم به مؤسسات الدولة الوطنية، خاصة الجيش؛ وبفضل التقاليد الثقافية والأعراف الاجتماعية التى تقاوم الانعزال والتقوقع خلف الهويات الطائفية. هذه هى المرتكزات التى تقوم عليها الهوية الوطنية المصرية المناوئة للتطرف والإرهاب، وهذه هى الأصول التى يجب علينا صيانتها وتعزيزها، وإصلاح ما قد يلحق بها أحيانا من مظاهر الخلل.
حماية النموذج المصرى للهوية الوطنية والتعايش لا يتعلق فقط بتوفير الأمن الضرورى ضد الهجمات التى تستهدف أرواح أبرياء من المسيحيين، ولكنه يتعلق أساسا بمقاومة كل ما يمس الهوية الوطنية المصري، والدور الوطنى غير الطائفى لمؤسسات الدولة، وكل ما يبدل التقاليد والأعراف الاجتماعية المقاومة للانعزال الطائفي. هجمات الإرهاب الأخيرة تؤكد أنه مازال من المبكر جدا الاحتفال بالانتصار على الإرهاب، فتنظيمات الإرهابيين مازالت قائمة، ومازالت هناك نفوس مريضة وعقول مخدوعة مستعدة للوقوع فى حبائل الدعايات المتطرفة.
أما الانتصار الكامل على التطرف والإرهاب فلن يتحقق فى ميادين القتال، ولكنه سيتحقق يوم نفوز بحرب العقول والقلوب، وهى حرب تدور معاركها فى فصول المدارس، ودور العبادة، ووسائل الإعلام، ودواوين الحكومة. فهل نحن جاهزون؟

==========

http://www.ahram.org.eg/News/202282/4/596943/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%8A%D9%86.aspx