قال المحامي بالنقض نجاد برعي إن الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وضع المادة 98 (و) في القانون المصري “عندما استخدمت الجماعة الإسلامية منابر المساجد للإساءة للدين المسيحي فوضع هذا القانون حتى يجرّم به استخدام أي دين لسب دين آخر”، وخاصة بعد أحداث الزاوية الحمراء الطائفية في حزيران 1981 والتي راح ضحيتها العشرات من المصريين وأحرقت فيها منازل ومحال تجارية لأقباط.تنص هذه المادة على أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تتجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي”، يستدل من المعنى الصريح لهذه المادة وملابسات صدورها أن الدولة قد سنّت هذا القانون لمحاربة الفكر المتطرف الذي يدعو للكراهية، وللعمل على نشر روح التسامح والمحبة بين المكونات المختلفة ضمن الوطن الواحد.
لكن ما حدث خلال السنوات الأخيرة كان مختلفا، وحتى معاكسا تماما لهذا الهدف، فتحت هذه المادة تحديدا تم رفع عشرات القضايا في المحاكم المصرية كان هدف الأغلبية المطلقة منها هو استخدام هذا القانون من قبل أفراد ومنظمات ذات خلفية إسلامية لملاحقة أي تصريح أو موقف أو حركة يقوم بها مثقف أو فنان أو أديب أو إعلامي فيها أبسط انتقاد للتفكير السائد بهدف إحالته للقضاء ومحاكمته والعمل على سجنه، أي أن القانون بدل أن يكون أداة في يد الدولة لمحاربة الفكر المتطرف أصبح أداة في أيدي رجال الدين لترهيب كل من يختلف معهم فكريا ولتكميمّ الأفواه مستخدمين عبارات مطاطة في القانون كذرائع مثل ازدراء الدين أو تهديد الوحدة الوطنية، ويلجأ هؤلاء عادة لرفع دعاوي متعددة على نفس الشخص وبأكثر من محكمة لإرهاقه نفسيا وماديا، إذ حتى لو فشلت القضية المرفوعة في تحقيق هدفها بسجن المستهدف فقد تنجح في إشاعة الخوف وجعل أي شخص يفكر مليّا قبل أن يوجه أي انتقاد أو قبل أن يخوض في القضايا العامة، وقد نجم عن الكثير من هذه القضايا استياء واسع لدى نسبة كبيرة من الشعب المصري وأوساطه الثقافية على وجه الخصوص، وبالإمكان القول إن هذا القانون وهذه القضايا هي من أصبحت تهدد الوحدة الوطنية وتؤثر على السلم الاجتماعي.
من القضايا التي أثارت الرأي العام قصة الباحث المميز إسلام بحيري الذي حكم عليه في منتصف عام 2015 بالسجن لخمس سنوات وبعد الاستئناف حكم عليه في بداية عام 2016 بالسجن سنة مع النفاذ وتم تنفيذ الحكم، وقالت المحكمة في نص الحكم: “من جميع ما سبق وجميع ما تقدم فإنه يكون قد ثبت ثبوتا يقينيا كافيا، أن المتهم إسلام بحيري قام بالتعدي على الإسلام والمسلمين باستغلال برنامجه للترويج لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة وتحقير وازدراء الدين الإسلامي الحنيف”، الباحث الشاب إسلام بحيري شخصية عامة ثقافية وإعلامية تمتاز باطلاع واسع على الدين الإسلامي وله برنامج تلفزيوني يحظى بشعبية واسعة اسمه “مع إسلام” يهدف لتنقية الفكر الإسلامي من ما تسرّب إليه بعد قرون من الدعوة الإسلامية من بدع وانحرافات وتطرّف، كما يطالب بإخضاع اجتهادات رجال الدين التابعين المولودين بعد قرون من الدعوة للمحاكمة العقلية باعتبارهم غير معصومين، خصوصا عندما تتناقض أحاديثهم مع القرآن والسنة والمنطق السليم، ودفع ثمن ذلك سنة سجن، وهو الذي كان يظن أن برنامجه ينسجم مع توجهات الرئيس السيسي الذي دعا شخصيا في بيان في كانون الثاني-يناير 2015 إلى تجديد الخطاب الديني، قال فيه إنه دعا شيوخ الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء “بسرعة إلى الانتهاء من خطاب ديني جديد يتواكب مع مستجدات العصر … تجديدا واعيا ومسؤولا … يقضي على الاستقطاب الطائفي والمذهبي ويعالج مشكلة التطرف”، ولكن مؤسسة الأزهر نفسها ممثلة بشيخها أحمد الطيب هي التي رفعت دعوى قضائية تدعو إلى وقف تقديم برنامج مع إسلام عام 2015، وفي 29 أكتوبر 2017 حكمت محكمة إدارية بحظر هذا البرنامج سواء على التلفزيون أو على الإنترنت بزعم الإساءة للإسلام، بعد أن قدم الأزهر نفسه شكوى رسمية ضده. لقد اختار رجال الدين مواجهة الفكر بالسجن بدل مواجهته بالفكر، وبما يدل على أنهم غير جاهزين بعد لأي تجديد في الفكر الديني.
وفي تطبيق آخر سيء لقانون ازدراء الأديان فقد تم الحكم في شباط 2016 على ثلاثة فتية أقباط أعمارهم 17 سنة بالسجن خمس سنوات مع النفاذ وصديقهم الرابع عمره 15 سنة بالإيداع بمؤسسة عقابية بتهمة ازدراء الدين الإسلامي نتيجة العثور في الهاتف المحمول لأحد مدرّسيهم على تسجيل لمشهد طوله 30 ثانية مصوّر في بداية عام 2014 يظهر فيه أحدهم وهو يصلي صلاة إسلامية والثاني يأتي من خلفه ويقوم بحركة وكأنه يذبحه بيده وبقية الفتية يضحكون، وقد قال الفتية في إفادتهم في قسم الشرطة أن ما يقصدونه في هذا المقطع هو تنظيم داعش، ولم يشفع لهم صغر سنّهم ولا تفوقهم الدراسي أو المستقبل الذي ينتظرهم، فقد عاقبهم القاضي بأقصى حكم يستطيع إصداره في أمثال هذه القضايا وهو خمس سنوات سجن مع النفاذ، وكان الأطفال قد قضوا قبلها 45 يوما موقوفين على ذمة التحقيق حتى تم إطلاق سراحهم بكفالة لحين استكمال محاكمتهم، ومع هذا المناخ المتطرف المحيط بمحاكمتهم لم يبق أمام الأطفال من خيار سوى الهرب، وقد نجحوا بالوصول إلى تركيا، وبمساعدة من منظمات حقوق الإنسان حصلوا على لجوء إنساني في سويسرا في أيلول 2016، وصرح أحدهم عند وصوله إلى هناك: أشعر أن لدي فرصة لحياة أفضل مما كنت عليه في مصر، كما أنه قد حكم على المدرس الذي وجد التسجيل في هاتفه بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ والغرامة وتهجيره مع عائلته من القرية بلا عودة، بعد وصول الأطفال لسويسرا تذكّر الإعلام المصري أن العالم قد يستخدم هذه القضية للحملة على مصر واتهامها بالتمييز ضد الأقباط، رغم أن الإعلام يعرف تماما أنه كان بالإمكان احتواء هذه الحادثة من بدايتها، لكن كل المستويات التي مرت عليها هذه القضية كانت تصر على التشدد فيها من ضابط المباحث الذي كتب أول محضر في القرية، إلى النيابة العامة إلى القاضي الذي أصدر أقسى حكم ممكن، إلى رئاسة الجمهورية المصرية التي لم تتدخل لوضع حد لهذه القصة، رغم الانطباع الذي ستتركه داخليا وعالميا حول المناخ غير المتسامح في مصر هذه الأيام.
ومن القضايا الأخرى الكاتبة والشاعرة والصحفية فاطمة ناعوت والتي حكم عليها بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ ودفع الغرامة 20 ألف جنيه لكتابتها على الفيس بوك انتقادا على طريقة عرض أضاحي العيد بعد تأثّرها عندما شاهدت عملية ذبح لجمل، كما تم قبلها رفع دعوى على مقدم البرامج الشهير الدكتور باسم يوسف والذي أحيل إلى نيابة أمن الدولة العليا بتهمة ازدراء الأديان ودفع 15 ألف جنيه كفالة لإخلاء سبيله مما دفعه أيضا لمغادرة مصر، وقبلها التحقيق مع المخرجة إيناس الدغيدي حول حلم شاهدت نفسها فيه تكلم الله، وكذلك الشيخ محمد عبد الله نصر الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان لتشكيكه ببعض أحاديث البخاري، وهناك قائمة طويلة من القضايا ضمت الفنان عادل إمام والإعلامي إبراهيم عيسى والمطرب شعبان عبد الرحيم والمطرب حكيم ورجل الأعمال نجيب ساويرس وعشرات غيرهم. فما يحدث في مصر الآن أن قضاة ومحامين ورجال دين يجتمعون في جلسات مطوّلة يقومون فيها بالتنقيب في تفسير أحلام إيناس الدغيدي وتدوينات فاطمة ناعوت وطريقة إخراج فيديو كليب للمطرب حكيم والأزياء التي ارتداها عادل إمام في أحد أدواره، والبحث فيهم عن أي سبب لإحالتهم للقضاء وإهدار طاقتهم ووقتهم وأموال الدولة في استجوابات على طريقة محاكم التفتيش الأوروبية في العصور الوسطى يلعبون هم فيها دور المدافعين عن الله.
يعتبر قسم كبير من الرأي العام والوسط الثقافي المصري أن قانون تجريم ازدراء الأديان قد أسيء استخدامه وأصبح وسيلة لقمع الآراء والتقييد على حرية التعبير، وكما قالت المبادرة المصرية للحقوق والحريات فإن هذا يدل على “وجود حالة من التربّص بحرية الرأي من قبل مجموعة من الأفراد والمؤسسات تريد فرض وصايتها على المواطنين في ظل مناخ معاد للحريات”، وقد قدمت النائبة آمنة نصير أستاذ العقيدة والفلسفة والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بفرع جامعة الأزهر اقتراحا بإلغاء المادة 98 فقرة (و) من قانون العقوبات المصري نتيجة صيغتها المطاطة والتي أسيء استخدامها كثيرا خلال السنوات السابقة، وفي الانعقاد الأول للبرلمان وقفت الحكومة ضد هذا الاقتراح وحذرت من تمريره وهي السلطة التنفيذية التي تقول إنها تريد تجديد الخطاب الديني، وفي الانعقاد الثاني صوتت اللجنة التشريعية في البرلمان ضد هذا الاقتراح بأغلبية 20 صوتا ضد ثلاثة نواب فقط أيدوه وامتناع نائب واحد عن التصويت، حتى أن النائب كمال عامر قد اقترح مشروع قانون معاكس يهدف إلى تشديد عقوبة ازدراء الأديان لتحقيق الردع العام حسب قوله، وقد وافقت لجنة اقتراحات البرلمان على مشروع القانون هذا، مما يعطي فكرة عن مناخ التشدد والمزاودة الذي تعيشه مصر هذه الأيام.
ـــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)
_______________________
Photo Credit: AFP
https://www.alhurra.com/a/Egypt-article/405607.html