المستشار نبيل صليب عوض الله يكتب: الهمايونى وقانون مجلسنا
المستشار نبيل صليب عوض الله ـ المصري اليوم
سبق لنا كتابة مقال بذات الجريدة، وتم نشره فى 4/ 9/ 2016، تحت عنوان «قانون منع بناء الكنائس»، وقد تضمن تعليقنا على القانون الصادر من مجلس النواب فى نهاية شهر أغسطس الماضى، الخاص ببناء الكنائس وشروط وإجراءات ذلك، وذكرنا فى مقالنا أن هذا القانون ردّنا إلى عصر المماليك وما قبله، وجاء زاخرا بكل أوجه العوار الدستورى، من إهدار لمبادئ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص، والتشدد بلا مبرر وبلا سند من دستور أو قانون فى إقامة دور عبادة- كنيسة- لأحد أصحاب الأديان السماوية بالمخالفة لنص المادة 64 من الدستور.
وعودة للظروف والملابسات التى أحاطت بهذا القانون أثناء التصويت على مواده بمجلس النواب والتهليل ورفع الأعلام بمناسبة إصداره، وترحيب الصحافة والإعلام به، باعتباره أول قانون، منذ ١٦٠ عاما، خاص ببناء الكنائس، والمنقذ من جور وعسف الخط الهمايونى الصادر عام 1856، والفزاعة التى كان يلوح بها دائماً الحكام قبل الأقباط عند شروعهم فى بناء كنيسة.
ولكن يا ليت هذا التهليل والترحيب كان حقيقيا ومصادفا محله، بل إن هذا القانون الصادر فى الألفية الثالثة لم يرتقِ لمستوى ومكانة الخط الهمايونى الصادر فى الألفية الثانية وفى القرن التاسع عشر.
وقبل أن نعقد مقارنة بين قانوننا والمرسوم العثمانى، يتعين علينا بداءة الإشارة إلى هذا الخط الهمايونى، وإعطاء فكرة أولية عنه للقارئ.
الخط الهمايونى هو مرسوم عثمانى صادر عن السلطان عبدالمجيد النظامى فى 11 جمادى الآخرة سنة 1272هـ الموافق 18 /2 /1856 بغرض الإصلاحات الدينية فى الدولة العثمانية، وتضمن تقرير وإبقاء كل الامتيازات والمعافيات الروحانية التى سبق منحها لكل الطوائف المسيحية، وتمكين كل طائفة من ترميم وتعمير كنائسها واستباليتاتها ومقابرها، أما الكنائس المقتضى إنشاؤها مجددا، فيلزم على البطاركة والمطارنة عرضها على بابنا العالى لاستخراج الرخصة اللازمة لها مجانا.
ولأن عوائد كل دين ومذهب موجود بممالكنا المحروسة جارية بالحرية، فلا يُمنع أى شخص من تبعتنا المملوكية من إجراء رسوم الدين المتمسك به، والمساواة فى الحقوق تستدعى المساواة فى الواجبات والوظائف، فالمسيحيون وسائر التبعة غير المسلمة يسحبون نمرة قرعة (الخدمة العسكرية) مثل المسلمين، كما تضمن المرسوم أمورا أخرى، منها الأصول المالية للدولة، وكيفية تحصيلها وإنفاقها (مثل وزراء المالية حالياً) ودفاتر الإيرادات والمصروفات (الميزانية)، والتوسع فى التجارة والصناعة والاستفادة من المصارف الأجنبية.
فأين قانوننا الحديث من هذا الرقى والتحضر الذى تضمنه المرسوم العثمانى من تمكين كل طائفة من ترميم وتعمير كنائسها حتى مقابرها دون قيد أو شرط، ودون تقديم طلب أو الحصول على موافقة جهة ما، كذلك لم يشترط لبناء كنيسة مستجدة سوى شرط واحد هو موافقة الباب العالى، وهو ما يعادل المحافظ فى وقتنا الحالى، دون أى قيد آخر مثل ما تضمنه قانوننا الحديث.. مذلة وازدراء من إحصاء سكانى يتناسب مع مساحة الكنيسة- وعلى فكرة ممكن أن تكون مساحتها أقل من ثلاثمائة متر، أصغر من مساحة شقة بالتجمع، كما ورد بنص المادة الأولى من القانون الفقرة أ – دون أى معايير لهذه النسبة والتناسب، وكيفية إجراء هذا الإحصاء، كما لو كانت أرض مصر على رحبها واتساعها تضيق عن بناء كنيسة، وما هو العدد الكافى من تابعى الطائفة فى نظر المشرع للفوز بترخيص بناء كنيسة، كما ذكرنا ذلك تفصيلا فى مقالنا السابق، بل إن عدد أفراد الطائفة توافره غير كاف وحده للحصول على ترخيص بناء كنيسة، بل أيضاً يجب توافر شرط آخر هو حاجة مواطنى الطائفة المسيحية فى المنطقة التى تقام بها، كما ورد بنص المادة الثانية من القانون.
وأرى أن كلمة «حاجة الطائفة» كلمة زائدة لا معنى لها، ولا يليق صدورها من المشرع، فذلك يدخل ضمن نطاق قلب الإنسان ومشاعره التى لا يعرفها، ولا رقيب عليها سوى الله (جل جلاله)، فهو وحده الذى يعلم حاجة الإنسان للصلاة فى جامع أو كنيسة، دون أن يملك أحد- كائنا من كان- الحكم بتوافر ذلك من عدمه.
وأعتقد جازماً أن إصدار قانون خاص ببناء الكنائس وحدها دون غيرها من دور العبادة زلة، ما كان للمشرع المصرى أن يتردى فيها، وهو قانون فريد من نوعه- MNIQUE- لا مثيل له فى أى دولة من دول العالم، شرقها وغربها، نامية ومتقدمة، وإعمالاً للدستور ولمبادئ المواطنة والمساواة، فإن إصدار هذا القانون يوجب أن يليه قانون ثان خاص ببناء الجوامع، وثالث خاص ببناء المعابد، وهكذا لكل بناء قانون، فلماذا ندخل بإرادتنا هذا النفق، وما جدواه، وهل هذا هو وقته المناسب؟!
فمصر حالياً فى حاجة للمساندة والتكاتف بين جميع أفراد شعبها، أياً كانت ديانتهم أو مذاهبهم، وذلك للارتقاء ببلدنا وتحقيق أمنياتنا فى حياة أفضل، فبيوت الله لا تبنى بتصريح أو بترخيص من بشر، ولسنا فى حاجة إلى قانون بناء خاص بكل دار من دور العبادة، ولا حتى قانون موحد لبناء دور العبادة، فكل بناء مهما كانت وظيفته أو الغرض منه خاضع لقانون واشتراطات البناء رقم 119 لسنة 2008، وهو فيه الكفاية لتشييد المبانى المستجدة أو ترميم المبانى القائمة، فلا يعقل ولا يقبل أن يكون بناء دور عبادة أكثر تشدداً وتعقيداً من ترخيص بناء عقار سكنى أو مول تجارى أو ملهى ليلى. وكما ختمت مقالى السابق، أختم أيضاً مقالى الحالى بذات النداء لقداسة البابا، تجنباً للمذلة وحفاظاً على كرامتك ومكانة الكنيسة القبطية المصرية الأرثوذكسية- الكنيسة الأولى فى العالم، التى ترأست جميع المجامع الكنسية المسكونية والمؤسسة لنظام الرهبنة- لا تتقدم بأى طلب لترخيص بناء كنيسة، فطلبك مقدماً وبالقانون مرفوض مرفوض مرفوض، وذلك إلى أن يتم إلغاء هذا القانون- السقط- أو تعديله وإزالة ما حواه من ألغام ومعوقات.
ـــــــــــــــــــــــــــ
*رئيس محكمة استئناف القاهرة واللجنة العليا للانتخابات الأسبق
http://www.almasryalyoum.com/news/details/1018048