in Arabic السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة

السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة

-

زياد بهاء الدين

egypt censor pic السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولةفاجأنى قرار رئيس مجلس الوزراء الصادر من أيام قليلة بشأن تنظيم الحفلات والمهرجانات كما فاجأ الكثيرين، ليس لأنه الأشد تأثيرا وتضييقا على حرية الرأى والتعبير، بل لأنه يعبر عن رغبة فى السيطرة على الثقافة والفن والابداع بأسلوب لا ينتمى للعصر الذى نعيشه وبشكل بالغ الضرر بالثقافة المصرية.
باختصار فإن القرار الأخير ــ رقم ١٢٣٨ لسنة ٢٠١٨ ــ يمنع تنظيم المهرجانات والحفلات والفاعليات الفنية والثقافية إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة. وهذا فى حد ذاته حكم غريب لأن مصطلح «فاعليات ثقافية» شديد الاتساع وبالتالى لا يقتصر على المناسبات الكبرى التى يحضرها الآلاف وقد تحتاج لرقابة وتنظيم، بل يشمل كل نشاط ثقافى، الكبير منه والصغير، بمقابل وبالمجان، الحكومى والخاص، الموسيقى والسينمائى والتشكيلى والأدبى، وسواء كان فى قاعة أو نادٍ أو نقابة.
وقد نص القرار على تشكيل لجنة عليا للمهرجانات برئاسة وزيرة الثقافة وعضوية ثمانى وزارات بجانب رؤساء النقابات الفنية والأدبية، تختص بدراسة طلبات إقامة المهرجانات والحفلات، ووضع أجندة سنوية لها، والتنسيق مع المحافظين كى لا ينعقد أى مهرجان أو احتفال خارج هذا التنظيم.
ثم نص القرار بعد ذلك على مجموعة من الضوابط التى تحكم سيطرة الدولة على النشاط الثقافى، فنجد أن على الجهة الراغبة فى عقد مهرجان أو احتفال تقديم طلبها خلال شهر يونيو فقط من كل عام، وأن الطلب يجب أن يتضمن أسماء كل المدعوين، وأن الجمعيات الأهلية لا يجوز لها إقامة حفل إلا إن كان لها «نشاط ملموس لخدمة المجتمع فى مجال تخصص المهرجان أو الاحتفال»، أما الشركات فيجب أن يكون ٥١٪؜ على الأقل من رأسمالها مملوكا لمصريين، وأخيرا فقد نص القرار على ضرورة مراعاة «العدالة الثقافية فى توزيع المهرجانات والاحتفالات على محافظات الجمهورية» وعدم إقامة أكثر من مهرجان أو احتفال فى ذات المجال فى نفس المحافظة.
نحن إذن لسنا أمام تنظيم قانونى يستهدف تأمين وحماية المهرجانات والاحتفالات حرصا على سلامة الحاضرين، ولا يستهدف الحد من التهرب الضريبى على النشاط الفنى، ولا حماية حقوق الملكية الفكرية، وكل هذه أهداف طبيعية ومشروعة كان ينبغى أن تعتنى بها الحكومة. نحن أمام سياسة تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير لأنها تستهدف السيطرة على النشاط الفنى والثقافى والإبداعى فى حد ذاته، وتتصور أن بالإمكان أن تضع له الدولة خطة سنوية على نحو ما تخطط لبناء الطرق والكبارى والمستشفيات العامة. وهذا كله غير قابل للتحقيق ويضر بالثقافة المصرية لعدة أسباب.
من جهة أولى فإن القرار يعبر، فى الجانب الثقافى هذه المرة، عن التداخل المستمر فى الدوائر الحكومية بين دور الدولة فى إدارة شئونها ودورها فى الاشراف على القطاعين الخاص والأهلى. أن تضع وزارة الثقافة برنامجها السنوى فهذا شأنها، ولكن لم تلزم الشركات الخاصة والجمعيات والنوادى بهذه الخطة المركزية؟ إذا كانت الدولة حينما تنظم انشاء مستشفياتها ومدارسها لا تفرض على القطاع الخاص الالتزام بخطتها السنوية فمن باب أولى ألا تفرض خطتها المركزية الثقافية على باقى المجتمع. وإذا شاءت أن تتدخل بشكل إيجابى فى تنظيم النشاط الثقافى، فلتبدأ بالعناية بمراكزها الثقافية وقصور الثقافة التابعة لها والمحرومة من الموارد والامكانات بدلا من السعى للسيطرة على النشاط الثقافى الخاص والأهلى.
من جهة ثانية فإن القرار الأخير يعبر عن التصور السائد فى الدولة بأن النشاط الثقافى والفنى يحتاج تنظيما وتقييدا وتخطيطا كى يحقق أهدافه، بينما الحقيقة أنه لا يحتاج كى ينمو وينطلق ويرتقى إلا المساندة والحماية والمناخ المشجع على الحرية والابداع، وليس المزيد من السيطرة والتدخل. والغريب أن يأتى هذا القرار فى أعقاب فضيحة تدخل أحد المجالس الإعلامية الجديدة لتقييد حرية الصحافة والتعبير بدلا من الدفاع عنها ثم تدخل النيابة العامة لمنعه من إصدار قرارات بحظر النشر فى سابقة لم تحدث فى مصر من قبل، وتعبر عن النتائج المضطربة التى يمكن أن يؤدى اليها الصراع والتنافس على تقييد الحريات حينما يفتقد لمنطق واضح ولأسس دستورية سليمة.
وأخيرا فإن قرار تنظيم الفاعليات الثقافية مثال على خطأ الاعتقاد بأن القانون واللوائح هم أداة تنظيم كل شىء، وعلى خطورة إطلاق يد من يكتبون مثل هذه القرارات دون تشاور مع الدوائر الأوسع من المهتمين والمعنيين بالتشريع. وما يدفعنى لهذا التعليق أننى واثق أن بين المسئولين فى الحكومة ووزارة الثقافة من سوف يبادرنا بالتأكيد على أن ما تضمنه القرار الأخير من قيود وشروط وضوابط لا يستهدف كل فاعلية وكل مناسبة ثقافية وكل حفل موسيقى، بل مجرد الحفلات والمهرجانات الكبرى التى يحضرها عشرات الآلاف والتى تحتاج دعما من الدولة وتنظيما وتنسيقا واشرافا. ولكن مثل هذه التوضيحات والمبررات، لو صدرت، لن تكون مطمئنة لأن النص القانونى واضح والصياغة تحتمل التوسع وصدور القرار بهذا الشكل غير المنضبط يجعله سيفا على رقاب من يفكر فى إقامة نشاط ثقافى أو فنى.
نصيحتى للدكتورة وزيرة الثقافة، ولا أشك انها حريصة على تشجيع الثقافة والفن والابداع، أن تطلب إلغاء هذا القرار واستبداله إذا شاءت بقرار يقتصر على تنظيم المهرجانات التى تقيمها أو تدعمها الدولة، دون التدخل فى النشاط الثقافى والفنى الحر، لأن محاولات السيطرة على الثقافة لن تؤدى إلا للنتيجة الحتمية التى نعانى منها بالفعل: المزيد من تدهور المستوى الفنى والثقافى، والمزيد من سطوة الفن الردىء، والمزيد من ضياع مكانتنا الثقافية فى العالم العربى و«القوة الناعمة» لمصر.

____________________
Photo Credit: Global Risks Insight
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=16072018&id=efcce456-1318-43fb-b255-a96c0adc85b6

?s=96&d=mm&r=g السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

You might also likeRELATED
Recommended to you

زياد بهاء الدين

egypt censor pic السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولةفاجأنى قرار رئيس مجلس الوزراء الصادر من أيام قليلة بشأن تنظيم الحفلات والمهرجانات كما فاجأ الكثيرين، ليس لأنه الأشد تأثيرا وتضييقا على حرية الرأى والتعبير، بل لأنه يعبر عن رغبة فى السيطرة على الثقافة والفن والابداع بأسلوب لا ينتمى للعصر الذى نعيشه وبشكل بالغ الضرر بالثقافة المصرية.
باختصار فإن القرار الأخير ــ رقم ١٢٣٨ لسنة ٢٠١٨ ــ يمنع تنظيم المهرجانات والحفلات والفاعليات الفنية والثقافية إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة. وهذا فى حد ذاته حكم غريب لأن مصطلح «فاعليات ثقافية» شديد الاتساع وبالتالى لا يقتصر على المناسبات الكبرى التى يحضرها الآلاف وقد تحتاج لرقابة وتنظيم، بل يشمل كل نشاط ثقافى، الكبير منه والصغير، بمقابل وبالمجان، الحكومى والخاص، الموسيقى والسينمائى والتشكيلى والأدبى، وسواء كان فى قاعة أو نادٍ أو نقابة.
وقد نص القرار على تشكيل لجنة عليا للمهرجانات برئاسة وزيرة الثقافة وعضوية ثمانى وزارات بجانب رؤساء النقابات الفنية والأدبية، تختص بدراسة طلبات إقامة المهرجانات والحفلات، ووضع أجندة سنوية لها، والتنسيق مع المحافظين كى لا ينعقد أى مهرجان أو احتفال خارج هذا التنظيم.
ثم نص القرار بعد ذلك على مجموعة من الضوابط التى تحكم سيطرة الدولة على النشاط الثقافى، فنجد أن على الجهة الراغبة فى عقد مهرجان أو احتفال تقديم طلبها خلال شهر يونيو فقط من كل عام، وأن الطلب يجب أن يتضمن أسماء كل المدعوين، وأن الجمعيات الأهلية لا يجوز لها إقامة حفل إلا إن كان لها «نشاط ملموس لخدمة المجتمع فى مجال تخصص المهرجان أو الاحتفال»، أما الشركات فيجب أن يكون ٥١٪؜ على الأقل من رأسمالها مملوكا لمصريين، وأخيرا فقد نص القرار على ضرورة مراعاة «العدالة الثقافية فى توزيع المهرجانات والاحتفالات على محافظات الجمهورية» وعدم إقامة أكثر من مهرجان أو احتفال فى ذات المجال فى نفس المحافظة.
نحن إذن لسنا أمام تنظيم قانونى يستهدف تأمين وحماية المهرجانات والاحتفالات حرصا على سلامة الحاضرين، ولا يستهدف الحد من التهرب الضريبى على النشاط الفنى، ولا حماية حقوق الملكية الفكرية، وكل هذه أهداف طبيعية ومشروعة كان ينبغى أن تعتنى بها الحكومة. نحن أمام سياسة تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير لأنها تستهدف السيطرة على النشاط الفنى والثقافى والإبداعى فى حد ذاته، وتتصور أن بالإمكان أن تضع له الدولة خطة سنوية على نحو ما تخطط لبناء الطرق والكبارى والمستشفيات العامة. وهذا كله غير قابل للتحقيق ويضر بالثقافة المصرية لعدة أسباب.
من جهة أولى فإن القرار يعبر، فى الجانب الثقافى هذه المرة، عن التداخل المستمر فى الدوائر الحكومية بين دور الدولة فى إدارة شئونها ودورها فى الاشراف على القطاعين الخاص والأهلى. أن تضع وزارة الثقافة برنامجها السنوى فهذا شأنها، ولكن لم تلزم الشركات الخاصة والجمعيات والنوادى بهذه الخطة المركزية؟ إذا كانت الدولة حينما تنظم انشاء مستشفياتها ومدارسها لا تفرض على القطاع الخاص الالتزام بخطتها السنوية فمن باب أولى ألا تفرض خطتها المركزية الثقافية على باقى المجتمع. وإذا شاءت أن تتدخل بشكل إيجابى فى تنظيم النشاط الثقافى، فلتبدأ بالعناية بمراكزها الثقافية وقصور الثقافة التابعة لها والمحرومة من الموارد والامكانات بدلا من السعى للسيطرة على النشاط الثقافى الخاص والأهلى.
من جهة ثانية فإن القرار الأخير يعبر عن التصور السائد فى الدولة بأن النشاط الثقافى والفنى يحتاج تنظيما وتقييدا وتخطيطا كى يحقق أهدافه، بينما الحقيقة أنه لا يحتاج كى ينمو وينطلق ويرتقى إلا المساندة والحماية والمناخ المشجع على الحرية والابداع، وليس المزيد من السيطرة والتدخل. والغريب أن يأتى هذا القرار فى أعقاب فضيحة تدخل أحد المجالس الإعلامية الجديدة لتقييد حرية الصحافة والتعبير بدلا من الدفاع عنها ثم تدخل النيابة العامة لمنعه من إصدار قرارات بحظر النشر فى سابقة لم تحدث فى مصر من قبل، وتعبر عن النتائج المضطربة التى يمكن أن يؤدى اليها الصراع والتنافس على تقييد الحريات حينما يفتقد لمنطق واضح ولأسس دستورية سليمة.
وأخيرا فإن قرار تنظيم الفاعليات الثقافية مثال على خطأ الاعتقاد بأن القانون واللوائح هم أداة تنظيم كل شىء، وعلى خطورة إطلاق يد من يكتبون مثل هذه القرارات دون تشاور مع الدوائر الأوسع من المهتمين والمعنيين بالتشريع. وما يدفعنى لهذا التعليق أننى واثق أن بين المسئولين فى الحكومة ووزارة الثقافة من سوف يبادرنا بالتأكيد على أن ما تضمنه القرار الأخير من قيود وشروط وضوابط لا يستهدف كل فاعلية وكل مناسبة ثقافية وكل حفل موسيقى، بل مجرد الحفلات والمهرجانات الكبرى التى يحضرها عشرات الآلاف والتى تحتاج دعما من الدولة وتنظيما وتنسيقا واشرافا. ولكن مثل هذه التوضيحات والمبررات، لو صدرت، لن تكون مطمئنة لأن النص القانونى واضح والصياغة تحتمل التوسع وصدور القرار بهذا الشكل غير المنضبط يجعله سيفا على رقاب من يفكر فى إقامة نشاط ثقافى أو فنى.
نصيحتى للدكتورة وزيرة الثقافة، ولا أشك انها حريصة على تشجيع الثقافة والفن والابداع، أن تطلب إلغاء هذا القرار واستبداله إذا شاءت بقرار يقتصر على تنظيم المهرجانات التى تقيمها أو تدعمها الدولة، دون التدخل فى النشاط الثقافى والفنى الحر، لأن محاولات السيطرة على الثقافة لن تؤدى إلا للنتيجة الحتمية التى نعانى منها بالفعل: المزيد من تدهور المستوى الفنى والثقافى، والمزيد من سطوة الفن الردىء، والمزيد من ضياع مكانتنا الثقافية فى العالم العربى و«القوة الناعمة» لمصر.

____________________
Photo Credit: Global Risks Insight
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=16072018&id=efcce456-1318-43fb-b255-a96c0adc85b6